من تلك المسائل التى علت فيها أصوات الفاشيين للتضييق على الناس والسعى إلى امتلاك عقولهم بعاطفة الدين مسألة ذبائح الغرب وما يخالطها من شبهة عدم التسمية، وإدراك المذبوح بعد صعقه. وقد بينا من ذلك أربع مسائل هى معنى الذبح وحقيقته عند الفقهاء وحكمه إذا وقع من القفا وحكم التسمية فيه. ونستكمل فيما يلى مسائله، فنذكر حكم ذبائح أهل الكتاب ومن فى حكمهم، وحكم الذبح بعد تخدير المذبوح أو صعقه بما لا ينهى حياته، ثم نبين اختيارات المصريين من كل ذلك.
خامسًا: حكم ذبائح أهل الكتاب ومن فى حكمهم
المقصود بأهل الكتاب عند جمهور الفقهاء اليهود والنصارى بفرقهم المختلفة، وذهب الحنفية إلى أن مصطلح أهل الكتاب يشمل كل من يؤمن بنبى ويقر بكتاب سماوى كصحف إبراهيم وشيث وزبور داود. والمقصود بمن فى حكم أهل الكتاب المجوس؛ لما أخرجه مالك فى «الموطأ» أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدرى كيف أصنع فى أمرهم؟ فقال عبدالرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب». وأخرج ابن أبى شيبة فى «مصنفه» مرسلًا عن الحسن بن محمد «أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس أهل هجر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم منهم قبل، ومن لم يسلم ضرب عليه الجزية غير ناكحى نسائهم ولا آكلى ذبائحهم».
وهل يشترط فى أهل الكتاب أن يكونوا على دينهم أبًا عن جد من يوم دخولهم فى اليهودية أو النصرانية أول مرة؟ مذهبان للفقهاء.
1 - الجمهور: لا يشترط ذلك، فالحكم بصفة اليهودية أو النصرانية يرجع إلى النفس وليس إلى النسب.
2 - الشافعية ورواية عن أحمد وقول ابن حزم: أنه يشترط لصفة اليهودية أو النصرانية الانتساب إلى هذا الدين أبًا عن جد إلى أصل هذا الدين؛ لأن الدخول فى الدين بعد البعثة الناسخة له غير مقبول فيكون كالردة.
واختلف الفقهاء فى حكم ذبائح أهل الكتاب ومن فى حكمهم على مذهبين فى الجملة.
المذهب الأول: يرى مشروعية أكل ذبائح أهل الكتاب ومن فى حكمهم كالمجوس. وهو قول سعيد بن المسيب وقتادة وأبوثور وإليه ذهب الظاهرية. وحجتهم هى عموم قوله تعالى: «ورسلا لم نقصصهم عليك» (النساء: 164). وأما قوله تعالى: «أن تقولوا أنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين» (الأنعام: 156)، فهذا - كما يقول ابن حزم - نهى عن هذا القول وليس تصحيحًا له.
المذهب الثانى: يرى مشروعية ذبائح أهل الكتاب فقط فى الجملة. وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة فى الجملة. وحجتهم هى فيما أخرجه ابن أبى شيبة مرسلًا عن الحسن بن محمد «أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر غير ناكحى نسائهم ولا آكلى ذبائحهم». وانفرد المالكية وبعض الحنابلة فى وجه باشتراط أن يكون المذبوح مما يحل لليهودى لو ذبحه لنفسه، فلو ذبح ما يحرم عليه كصاحب الظفر، وهو ما له جلدة بين أصابعه كالإبل والأوز فلا يحل لنا أكله، وكذلك يحرم علينا أكل شحوم النعم التى يذبحها اليهودى، لأنها محرمة عليه، ولأنه يذبحها بقصد الإتلاف.
وقول المالكية ومن وافقهم فى هذا معارض بعموم قوله تعالى: «وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم» (المائدة: 5)، وبعموم ما أخرجه البخارى ومسلم عن أنس: «أن يهودية أتت النبى صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها». قال ابن حزم: ولم يحرم النبى صلى الله عليه وسلم منها لا شحم بطنها ولا غيره.
سادسًا: حكم الذبح بعد تخدير المذبوح أو صعقه بما لا ينهى حياته
إذا لم يوجد سبب يحال على الحيوان هلاكه به فإنه يكفى لصحة تذكيته وجود أصل الحياة ولو كان فى آخر رمق كالشيخوخة أو المرض العارض. ويدل لذلك ما أخرجه عبدالرزاق فى «مصنفه» وأورده ابن حزم فى «المحلى» من طريقه عن أبى مرة مولى عقيل بن أبى طالب أنه وجد شاة لهم تموت فذبحها فتحركت، فسألت زيد بن ثابت؟ فقال: إن الميتة لا تتحرك، فسألت أبا هريرة؟ فقال: كلها إذا طرفت عينها، أو تحركت قائمة من قوائمها.
أما إذا تعرض الحيوان لسبب يحال عليه الهلاك كالانخناق أو التردى من جبل أو الضرب الشديد أو النطح أو خروج أمعائه بحادث أو ذبحه من قفاه وعدم إكمال قطع الأوداج، أو تخديره أو صعقه بالكهرباء أو إفقاده الوعى دون إماته تامة، كما يحدث فى المجازر الأوروبية حاليًا، فهل يجوز ذبحه ويحل به أم لا؟ مذهبان للفقهاء.
المذهب الأول: يرى تحريم أكل الحيوان إذا طرأ عليه قبيل ذبحه سبب يهلكه ما لم تكن به حياة مستقرة. وهو مذهب جمهور الفقهاء قال به أبويوسف ومحمد من الحنفية وإليه ذهب المالكية والشافعية والحنابلة. وحجتهم:
1 - أن الحيوان قد تردد بالسبب الطارئ المهلك بين أن يكون موته بالذبح وبين أن يكون موته بهذا السبب المهلك، فكان التغليب للسبب المحرم احتياطًا للمطعومات؛ لما أخرجه البيهقى فى «شعب الإيمان»، عن أبى بكر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أيما لحم نبت من حرام فالنار أولى به». وعلى هذا فيكون الاستثناء فى قوله تعالى: «إلا ما ذكيتم» (المائدة: 3) عائدا على آخر المذكورين وهو «ما أكل السبع» وليس شاملًا لما قبله.
2 - أن الذبح لا يكون إلا للحيوان الحى، والمقصود بالحياة أصلها إذا لم يطرأ على الحيوان ما يهلكه فإن طرأ عليه سبب للهلاك لم يعد يوصف بالحياة إلا إذا كانت حياته مستقرة وهى ما إذا ترك يعيش غالبًا، وإذا ذبح تحرك بعد الذبح حركة شديدة أو ينفجر منه الدم.
المذهب الثانى: يرى حل أكل الحيوان إذا طرأ عليه قبيل ذبحه سبب يهلكه ما لم ينعدم أصل الحياة، ولا يشترط لحل الذبيحة تحرك ولا خروج دم إن علمنا حياة المذبوح قبل الذبح، فإن لم نعلم حياة المذبوح قبل الذبح أو شككنا فى حياته فذبحناه فخرج منه الدم، أو تحرك بضم الفم أو العين أو قبض الرجل كان هذا علامة على الحياة فيحل. وهو قول أبى حنيفة ورواية عن أحمد اختارها ابن تيمية، وهو مذهب الظاهرية ونصره ابن حزم فى «المحلى» فقال: «كل ما تردى أو أصابه سبع، أو نطحه ناطح، أو انخنق فانتثر دماغه، أو انقرض مصرانه، أو انقطع نخاعه، أو انتشرت حشوته فأدرك وفيه شىء من الحياة فذبح أو نحر حل أكله، وإنما حرم الله تعالى ما مات من كل ذلك». وحجتهم:
1 - عموم قوله تعالى: «حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم» (المائدة: 3). قالوا: فقد استثنى الله سبحانه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع مما فيه حياة ما أدركت ذكاته. قال ابن حزم: «ولا نبالى من أيهما مات قبل؛ لأن الله تعالى لم يشترط ذلك بل أباح ما ذكينا قبل الموت، فلو قطع السبع حلقها نحرت وحل أكلها، ولو بقى فى الحلق موضع يذبح فيه ذبحت وحل أكلها».
2 - ما أخرجه عبدالرزاق فى «مصنفه» وأورده ابن حزم فى «المحلى» عن أبى طلحة الأسيدى قال: عدا الذئب على شاة فأفرى بطنها فسقط منه شىء إلى الأرض، فسألت ابن عباس؟ فقال: انظر ما سقط منها إلى الأرض فلا تأكله، وأمره أن يذكيها فيأكلها. كما أخرج عبدالرزاق وأورده ابن حزم عن النعمان بن على قال: رأى سعيد بن جبير فى دارنا نعامة تركض برجلها، فقال: ما هذه؟ قلنا: وقيذ وقعت فى بئر، فقال: ذكوها، فإن الوقيذ ما مات فى وقذه. وأورده ابن حزم عن حصين بن عبدالرحمن أن ابن أخى مسروق سأل ابن عمر عن صيد المناجل، فقال: إنه يبين منه الشىء وهو حى؟ فقال ابن عمر: أما ما أبان منه وهو حى فلا تأكل، وكل ما سوى ذلك.
وقد اختار المصريون فى مسائل الذبح ما ييسر معيشتهم ويظهر الإحسان فى الذبح بما يليق وجمال الدين دون التقيد بمذهب معين، كما نوضحه فيما يلى.
1 - فى مسألة تعريف الذبح اختار المصريون مذهب الجمهور الذى يرى أنه قطع للأوداج فى الرقبة «الحلقوم والمرىء والعرقان حولهما»، سواء أكان هذا القطع من أعلى الرقبة أم من أسفلها، وسواء أكان الحيوان المذبوح طويل الرقبة كالناقة والزرافة أم كان قصير الرقبة كالغنمة والبقرة؛ لاستعمال القرآن الكريم مصطلحى الذبح والنحر دون تخصيص.
وترك المصريون مذهب المالكية الذى يقصر تعريف الذبح على أنه قطع فى أعلى الرقبة من جهة الرأس، وهو خاص بالحيوان قصير الرقبة كالبقرة. أما الحيوان طويل الرقبة كالناقة فلا يحل بالذبح وإنما يحل بالنحر الذى هو قطع أسفل الرقبة من جهة الجسد؛ استدلالا بظاهر القرآن الكريم الذى أورد الذبح فى مناسبة ذكر البقر، وأورد النحر فى مناسبة ذكر الإبل.
ولم يكن اختيار المصريين لمذهب الجمهور فى تعريف الذبح لكثرة القائلين به، وإنما كان لتيسيره على الناس مع ظهور دليلهم. كما لم يكن ترك المصريين لمذهب المالكية تجرؤًا على إيراد النص وإنما هو تحقيق لفهم النص على الوجه الذى يقنع المصريين.
2 - وأما فى مسألة حقيقة الذبح فقد اختار المصريون مذهب الظاهرية الذى يراه قطعًا لبعض الأوداج «الحلقوم والمرىء والعرقان حولهما» فى الرقبة مما يسرع الموت للذبيحة، فإن لم يسرع الموت أعيد القطع ولا يضره ذلك شيئًا؛ لما فى هذا القول من اليسر وإمكان تدارك التقصير. وترك المصريون سائر المذاهب فى حقيقة الذبح لتشددها فى تعيين الأوداج المطلوب قطعها بما يورث الشك والوسوسة خاصة مع غير المحترفين. فقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى تعيين قطع الحلقوم والمرىء، وذهب الحنفية والمالكية إلى تعيين قطع أكثر الأوداج الأربعة. مع أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعين أوداجًا فى الذبح، فقال فيما أخرجه الشيخان عن رافع بن خديج: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل».
3 - وأما ذبح الحيوان من القفا فإن المصريين يكرهونه ويرونه إساءة للدين الذى أمر بالإحسان فى كل شىء، فاختاروا مذهب المالكية الذين قالوا بتحريم أكل الحيوان المذبوح من القفا. وترك المصريون مذهب الجمهور الذى يرى جواز ذبح الحيوان من القفا مع الإثم.
ولم يكن ترك المصريين لمذهب الجمهور هنا لمجرد المخالفة، وإنما كان من باب ممارسة حقهم فى الاختيار الفقهى بما يطمئن إليه القلب؛ خاصة أن الجمهور مقر بتحريم الذبح من القفا وأنه يرتب إثمًا لما فيه من تعذيب للذبيحة لكنهم قالوا إن هذا الإثم لا يرتب تحريمًا لقطع الأوداج قبل موتها. كما لم يكن اختيار المصريين لمذهب المالكية الذى يرى تحريم أكل الحيوان المذبوح من القفا حبًا للتشدد أو بطرًا للنعمة، وإنما كان من باب التبتل ومعاقبة النفس بحرمانها من أكل لحم حيوان أسىء ذبحه بالتعذيب.
4 - وأما التسمية فى الذبح فقد اختار المصريون مذهب الشافعية وبعض المالكية والحنابلة الذين قالوا بأن التسمية فى الذبح سنة، فلو وقع الذبح من مسلم أو من كتابى بغير تسمية حلت الذبيحة، وأن الممنوع هو ما ذبح لغير الله نصًا. وترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذين قالوا بتحريم الذبيحة التى لم يذكر عليها اسم الله، سواء أكان الذابح مسلمًا أم غير مسلم.
ولم يكن اختيار المصريين لمذهب الشافعية ومن وافقهم القائلين بعدم اشتراط التسمية لحل الذبيحة استخفافًا بأمر التسمية، فهم من أحرص الناس على التسمية فى كل شؤونهم، وإنما كان هذا الاختيار من باب التواصل مع أهل الكتاب الذين يعملون فى مجال الذبح خاصةً أن الله تعالى أحل للمسلمين ذبائحهم نصًا. كما لم يكن ترك المصريين لمذهب الجمهور الذين اشترطوا لحل الذبيحة ذكر اسم الله عند ذبحها من باب التجرؤ، وإنما كان من باب ممارسة الحق الشرعى فى الاختيار الفقهى عند تعدد المذاهب وفق قاعدة ارتياح القلب.
5 - وأما مسألة ذبائح أهل الكتاب ومن فى حكمهم فقد اختار المصريون فيها مذهب الظاهرية الذين أجازوا ذبائح الملحقين بأهل الكتاب من المجوس وغيرهم لتعلقهم بالله عز وجل من أى ملة كانت؛ خاصًة أن رسل الله غير محصورين فى كتابه فمنهم من لم يرد قصصه فيه. وترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذى يرى تحريم ذبائح الملحقين بأهل الكتاب، فلا تحل الذبيحة عندهم إلا إذا كانت من مسلم أو من كتابى نصرانيًا أو يهوديًا.
ولم يكن ترك المصريين لمذهب الجمهور هنا خروجًا عن قول الأكثرين بغير داعية، وإنما كان لممارسة حق الاختيار فى التعدد الفقهى بحسب قاعدة اطمئنان النفس وارتياح القلب. كما لم يكن اختيار المصريين لمذهب الظاهرية هنا تهاونًا فى حق الدين، وإنما من باب البحث عن أسباب تعاون الأسرة الإنسانية تحت مظلة التوحيد لله.
واختار المصريون لتحقق صفة أهل الكتاب إقرار الإنسان على نفسه بدينه؛ لأن الدين يعتبر بالاختيار وليس بالنسب؛ وفقًا لقاعدة إطلاق الدين وكرامة الإنسان، كما ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء. وترك المصريون مذهب الشافعية والظاهرية ورواية عن أحمد الذين اشترطوا لصفة اليهودية أو النصرانية الانتساب إلى هذا الدين أبًا عن جد من يوم ظهوره لأول مرة بزعم أن الدخول فى الدين بعد البعثة الناسخة غير مقبول.
6 - وأما مسألة الذبح بعد تخدير المذبوح أو صعقه بما لا ينهى حياته فقد اختار المصريون قول أبى حنيفة الذى خالفه فيه صاحباه أبويوسف ومحمد، ولكن وافقه أحمد فى رواية اختارها ابن تيمية، وهو مذهب الظاهرية الذين قالوا بحل أكل الحيوان الذى أدركت ذكاته قبل انعدام حياته بالكلية، ولو كان فى رمقه الأخير بسبب الصعق أو التردى من جبل لقوله تعالى: «إلا ما ذكيتم» (المائدة: 3). وترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذين قالوا بتحريم أكل الحيوان الذى تعرض لسبب الهلاك قبل ذبحه؛ لكونه موقوذة.
ولم يكن ترك المصريين لمذهب الجمهور هنا استحلالًا للموقوذة، وإنما كان لممارسة حقهم فى الاختيار الفقهى عند تعدده وقناعتهم بأن الاستثناء الوارد فى الآية «إلا ما ذكيتم» يمكن تعميمه على الموقوذة بحسب رؤية أبى حنيفة والظاهرية ومن وافقهم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة