فى مصر المحروسة تبدو خريطة حقوق الإنسان مرتبكة فى أولوياتها فى وعى البسطاء أو حتى فى وعى النظام الحاكم، بمعنى أيهما يسبق الآخر الحقوق السياسية أم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؟ عاش المصريون حياتهم عبر قرون على هامش الأنظمة باستثناء فترات كالحقبة الناصرية وأوائل عهد السادات، يوم كان للنظام السياسى توجه واضح نحو تأمين الحد الأدنى المقبول من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فأمنت الحكومة الوظائف والتعليم والصحة والإسكان وحتى النشاط الترفيهى والترويحى فازدهرت منظومة الثقافة والفن، حتى إننا ما زلنا نحيا على تلك الجرعة الوجدانية التى أنتجتها فنون تلك الفترة فى السينما والغناء وكل الفنون تقريبا، لكن فى العقود الثلاثة الأخيرة أصبح الإنسان المصرى سواء فيما يتعلق بالحقوق السياسية أو حتى الاقتصادية والاجتماعية على الهامش تماما، وتراجعت مساحات الإشباع السابقة ليتراجع الهدف من رعاية حقوق الناس إلى الإبقاء على ما يصمد منهم لهذا العنت على قيد الحياة، بالشكل الذى أصبحت فيه الحياة كالموت لدى الكثير من أبناء شعبنا الذين خرجوا من مصر ليلتهمهم البحر فى رحلات الهروب من الموت إلى ما يظنونه حياة أخرى أفضل، الحقيقة أن الإنسان المصرى الذى صبر طويلا وظلت نفسه تمور بالغضب الصامت عبر عقود أطلق العديد من الصيحات الزاعقة التى تبدى تمرده مما يجرى بحقه، خرج الناس فى انتفاضة يناير التى سماها السادات انتفاضة الحرامية رافضين رفع أسعار بعض السلع الأساسية.
وأتصور أننا من الدول القليلة فى العالم التى لديها هذا التعبير «السلع الأساسية» وما هى السلع غير الأساسية إذن؟ تأمل تلك القائمة من السلع الأساسية فقط لتدرك عمق الأزمة التى يعيشها أبناء هذا الشعب الصابر، السكر الأبيض المكرر يحلون به كوب شاى أسود من أيام عاشوها ويعيشونها، وكيس أرز أبيض عبارة عن كسر أرز وزيت غليظ الطبع والطبيعة، يضعونه فى مقلاة ليتكفل بقطع من الباذنجان أو البطاطس فى وجبة من الدهون المشبعة التى تنهك الشرايين والقلب، هذا الزيت الذى لم يعد يستخدم فى الخارج سوى فى الاستخدامات الصناعية، تدور حوله الآن معارك الفقراء، ما زلت أتألم لحوار بين سيدتين فى سوق شعبية حول هذا السائل السحرى زيت الطعام، الذى قالت عنه تلك السيدة لماذا لا يتركون لنا طعام الغلابة؟ كنا نغلى الزيت فى الطاسة المعتمة كأيامنا ونقلى البطاطس التى تشبع أولادنا، لم يتركوا لنا لا الزيت ولا البطاطس التى نازعتنا فيها روسيا التى تصدر إليها، الناس لم تعد تتحدث عن كوب اللبن باعتباره طعاما أساسيا للطفل وللمرأة والشيخ، بعد أن قفز سعره ولا اللحم أو الزبد، هذا جانب من حقوق الناس أصبح معلوما من واقع الدنيا بالضرورة، لكنه أضحى لدينا هدف توضع له الخطط الحكومية.. يا سادة ماذا لو عرضنا النظام الغذائى للمصريين على منظمة الصحة العالمية؟
الغذاء هو أول دواء فى حياة الإنسان فماذا بعد أن تحول الدواء إلى داء يشكو منه جل المصريين؟ من المعلوم أن %35 من الأمراض المعروفة تعود إلى سوء التغذية، والتى تعنى تجاهل الهرم الغذائى الصحيح الذى يضم المواد البانية التى تبنى الجسم والأعضاء، والواقية التى تقى من الأمراض، والطاقية التى تعطى الجسم الطاقة اللازمة للنهوض بأنشطة الحياة المختلفة، ولعل أهم الأسباب الرئيسية لزيادة معدلات أمراض بعينها فى مصر يعود لذلك الاختلال، الذى اعتمد على المواد المالئة للمعدة دون التفكير فى المفيد والنافع، أو التفرقة بين الطعام الذى يبنى الأعضاء أو يعطيها الطاقة أو يقيها من الأمراض، فقد تجاوزنا ذلك فى مصر حيث يكشف النمط الغذائى لجل المصريين أنهم لا يأكلون بشكل صحيح، بمعنى أن النمط الغذائى الصحيح لحياة صحية يقتضى نظاما غذائيا صحيحا يتمثل فى طعام متنوع يضم «بروتين ودسم أو دهون وسكريات وعناصر معدنية وفيتامينات وماء». لو راجعنا هذه العناصر فنحن نتحدث عن لحوم وطيور وأسماك وزبد وفواكه وخضراوات ونشويات ثم مياه نقية، يصطدم هذا التصور بغياب مقوماته فى مصر، فلا توجد مياه نقية سوى المياه المعبأة التى يتفوق سعرها على أسعار المياه الغازية، وتقفز أسعار اللحوم الجيدة لأسعار تفوق طاقة أغلب الشعب، وتندر الفواكه المصرية التى اختفت لحساب فواكه مستوردة من كل العالم الآن بأسعار تناسب البعثات الدبلوماسة الأجنبية، وبالتالى انهار أول عنصر المتعلق بالغذاء، يبقى العنصر الآخر الذى يتسبب فى الأمراض وهو قلة النشاط البدنى، بمعنى عدم ممارسة أى نشاط رياضى خاصة فى ظل ارتفاع أسعار الاشتراكات السنوية فى أندية مصر، عندما يصبح الطعام الصحى حلما بعيد المنال وممارسة الرياضة حكرا على من يدفع فلا تحدثنى عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
أنا لم أتحدث عن التعليم أو الرعاية الصحية أو الإسكان أو المواصلات، وغيرها من مساحات العنت والعذاب اليومى الذى يعيشه المصريون فى صبر لافت، ولكنى فقط أذكر النظام السياسى ورجال الأعمال الذين امتصوا دماء هذا الشعب فى تلك الحقبة النكدة، التى تصور فيها رأس المال أنه يستعيد حقه من الشعب الذى أمم عبدالناصر الأموال لصالحه، فارتدت الموجة بعنف وقسوة إليهم فى نمط لم يشابه حتى ما كان عليه رأس المال قبل ثورة يوليو، يوم كان هناك شعور بالمسؤولية الاجتماعية لرأس المال، نحن لا نغرق فى الحديث عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى إطار الابتزاز أو المساومة على حقوق الإنسان المصرى الأخرى، بل لنؤكد أن الحقوق لا تتجزأ ومن حق الإنسان المصرى أن يحصل عليها جميعا دون تفرقة، ولكننا أردنا فقط أن نبرز حجم الصبر على الحرمان من الحقوق الأساسية التى لم يثر المصريون من أجلها بل ثاروا من أجل الحرية والعدل، التى لا يتصورون وسائل غيرها لنيل حقوقهم، لا بديل عن كل الحقوق ولا تراهنوا على صبر طويل للشعب على الحرمان من حقوقه، فنحن أمام أجيال لم تعد تقبل تلك القسمة الجائرة، بين فئة تملك كل شىء وشعب لا يملك أى شىء، سوى حلم بأن يكون ككل البشر، فالشعب لن يحيا بالخبز وحده وإن كان مخلوطا بالهوان والتراب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة