ما يجرى فى الشارع المصرى الآن من محاولات جادة تبذلها الدولة من أجل إعادة الانضباط، أشبه بعملية جراحية دقيقة لاستئصال أورام خبيثة تسببت فى كل هذا القبح الذى أصبح شبحًا يهدد بالقضاء على مظاهر الجمال التى كنا نتباهى بها، ونفتخر بها من قبل.
فقد كان السير فى أى شارع من الشوارع الرئيسية، سواء كان ذلك فى منطقة وسط القاهرة، أو فى أى مكان آخر، أشبه بألعاب الأكروبات فى السيرك، فالسيارات أصبحت لا تكتفى بالشوارع بل أصبحت تزاحم المواطنين فى السير فوق الأرصفة، أما الباعة الجائلون فحدّث ولا حرج، فقد احتلوا كل شبر فى الشوارع، حتى إن المواطن أصبح لا يجد مكانًا وهو يسير على قدميه، أو داخل سيارته، وكأن تلك الشوارع قد تحولت بقدرة قادر إلى أملاك خاصة لهؤلاء الباعة الجائلين الذين ظهروا فى حياتنا فجأة، مثل الزرع الشيطانى الذى ينمو بشكل عشوائى ومفاجئ.
والحق يقال فإن ما يجرى الآن من تحول جذرى فى شكل الشارع المصرى قد أعطى انطباعًا إيجابيًا لدى المواطنين الذين شعروا بالفعل أن ما يتم من إجراءات لعودة هيبة الدولة ليس كما كان يحدث من قبل، فهذه المرة الأمر مختلف تمامًا، لأنه جاء فى توقيت مهم، وفى مرحلة فاصلة من عمر الوطن.. مرحلة تعيش فيها مصر حالة مخاض، وحالة صحوة نحو اقتحام المشكلات المزمنة، وأهم ما يميز تلك التجربة أننا لم نرَ من قبل رئيس وزراء يتصدر عمليات تطهير الشارع من الباعة الجائلين، كما لم نرَ من قبل أيضًا وزير الداخلية يقف جنبًا إلى جنب الضباط والجنود المكلفين بتنفيذ تلك المهمة القتالية التى تستهدف تنظيف الشارع من تلك المظاهر السلبية التى تضخمت فى غفلة من القانون وقت أن كانت الدولة بأكملها تغط فى نوم عميق، بل نراه فى كثير من الأحيان فى صدارة تلك الحملات ضاربًا القدوة والمثل لزملائه وأبنائه من الجنود والضباط.
ولأن قضية هيبة الدولة، وضرورة إعادة الانضباط إلى الشارع المصرى تمثل قضية رأى عام، وتمثل مطلبًا جماهيريًا ملحًا، فإننى أسجل اعتراضى على ما يقوم به المهندس إبراهيم محلب من «طبطبة» زائدة على هؤلاء الباعة الجائلين الذين أساءوا إلى المجتمع ككل باستيلائهم على الشارع المصرى، مستخدمين كل أشكال البلطجة، ضاربين عرض الحائط بما يكفله القانون من حقوق للمواطنين فى الممتلكات العامة، فقد استوقفتنى تصريحات المهندس إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء، خلال لقائه الباعة الجائلين، وهو يخطب ودهم ويقول لهم إن الرئيس يتابع هذا الملف بنفسه، وإنه أوصى الحكومة خيرًا بهؤلاء الباعة الجائلين.. فعلى الرغم من أننى على ثقة تامة بأن الرئيس يساند من يتعب ويجتهد ليأكل لقمة عيش نظيفة هو وأولاده، فإننى على يقين أيضًا بأن الرئيس لا يساند من يعتمد على أسلوب البلطجة، و«لوى الدراع» فى تشويه شكل الشارع، والاستيلاء على الأرصفة ليعرض بضاعته باتباع أسلوب «الأمر الواقع».
ألم يكفِ هؤلاء الباعة الجائلون أن الدولة قد أعدت لهم مكانًا فى منطقة الترجمان، بل حرصت كل الحرص على أن يصبح هذا المكان نموذجًا تتوافر فيه الخدمات المختلفة لهؤلاء الباعة من منطلق أن الدولة لا تريد باعة جائلين، ولكن تريد تجارًا صغارًا، الأمر الذى دفع رئيس الوزراء إلى أن يأخذ معه الوزراء المختصين، ورئيس اتحاد الصناعات، ومسؤولى الغرف التجارية لمساعدة الباعة عقب نقلهم إلى الترجمان.
إننى أرى ضرورة أن تتعامل الدولة بحزم وشدة مع من يحاول العودة مرة أخرى من هؤلاء الباعة إلى شوارع وسط القاهرة، لأننا نريد حالة تغيير شامل فى المنطقة، لنعطى مثالًا ونموذجًا للنجاح، وأن تعود منطقة وسط البلد مثلما كانت من قبل، فهى أغلى منطقة تراثية فى الشرق الأوسط.
وحتى لا أكون متجنيًا على هؤلاء الباعة الجائلين، فإننى أرى أن الأزمة الحقيقية ليست فى حرص هؤلاء الباعة على العودة مرة أخرى إلى أماكنهم فى الشوارع بعد أن تهدأ العاصفة، كما كان يحدث من قبل، إنما المشكلة الحقيقية من وجهة نظرى تتمثل فى وجود هذا الكم الهائل من الفساد الإدارى فى الأحياء التابعة للمحافظات، فالكثير من تلك الأحياء ترتبط مع هؤلاء الباعة بمصالح مشتركة، فالباعة الجائلون يستولون على الأرصفة فى وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع من مسؤولى الأحياء، الأمر الذى يجعلنا فى أمسّ الحاجة إلى إعادة نظر فى منظومة الجهاز الإدارى للدولة، وعلى وجه الخصوص بعض موظفى الأحياء من أصحاب النفوس الضعيفة الذين يقع على عاتقهم التعامل بشكل مباشر مع الجمهور، فقد استشرى الفساد بين بعض موظفى هذه الجهات الحكومية، وفاحت رائحته الكريهة، وأصبح فى حاجة إلى وقفة أكثر حزمًا، وإعادة ترتيب تلك المنظومة بالكامل، بما يتماشى مع طبيعة المرحلة الجديدة التى نعيشها الآن.
وأعتقد أن اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، يمثل «رمانة الميزان» فى هذه المسألة، لأن حملة تطهير الشوارع من الباعة الجائلين لم يحالفها التوفيق إن لم يكن يصاحبها هذا الحرص، وهذا الحماس الذى ظهر عليه وزير الداخلية فى جولته التى قام بها فى كل شوارع وميادين وسط البلد، وشارع 26 يوليو، ومنطقة ميدان الإسعاف، وعبدالمنعم رياض، والتحرير، لتفقد الحالة الأمنية بعد نقل الباعة الجائلين تنفيذًا لقرار محافظة القاهرة إلى المكان المؤقت الذى تم تخصيصه لهم فى منطقة جراج الترجمان، فقد وجه بضرورة استمرار الحملات الأمنية على كل شوارع وميادين وسط البلد لمنع عودة الباعة الجائلين مرة أخرى، والحفاظ على المظهر الحضارى لشوارع العاصمة، كما شدد على ضرورة القضاء على ظاهرة افتراش الطرق، وهو ما سيساعد بكل تأكيد على القضاء على التكدسات المرورية فى شوارع العاصمة.
فالتكدس المرورى قد تحول مع مرور الوقت إلى هم يؤرق المواطنين ليل نهار فى كل مكان، فضلاً على أنه ومع تكراره «المستفز» بشكل يومى أصبح يمثل أحد أهم أسباب خلق حالة من السخط العام بين الناس على أداء الحكومة، وعلى غياب دولة القانون، ومن هذا المنطلق أرى ضرورة وجود رجال المرور بشكل أكثر فاعلية فى الشارع، لأن حل أزمة التكدس المرورى من شأنها الوصول إلى حلول عاجلة لمشكلات عديدة فى أكثر من مجال فى المجتمع.
وعلى الرغم من أننى على يقين بأن وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم لا يمتلك عصا سحرية لحل المشكلات المستعصية فى غمضة عين، فإننى أطالبه وأناشده النظر وبشكل عاجل إلى أزمة المرور التى يعانى منها الجميع فى الشارع المصرى، والتى أعتقد أن البطء الشديد فى حلها قد يتسبب فى التقليل من شأن الجهود الكبيرة التى تبذلها قيادات الوزارة فى مجالات أخرى متعلقة بالأمن، فمشكلة المرور ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحالة الحياتية للمواطنين، لذا فإن أى إجراء مهما كان بسيطًا، فإن الناس ستشعر به على الفور، وهو ما يدفعنى إلى القول بأن إنهاء المشكلة المرورية سيحمل فى طياته حلولًا لكل المنظومة الأمنية فى الشارع المصرى.
فما يقوم به الوزير النشط اللواء محمد إبراهيم من إجراءات متتالية من أجل إعادة الانضباط إلى الشارع بالتخلص من هذا الوضع المزرى الذى يسببه الباعة الجائلون لشكل الشارع المصرى، هو فى حقيقة الأمر جهد كبير نشكره عليه، لكن- للأسف الشديد- المعاناة اليومية بسبب أزمة المرور تفسد كثيرًا أى إنجاز يتم فى هذا الصدد.
وعلى الرغم من ذلك، فإننى أتوقف طويلاً أمام تلك الجهود المضنية التى تقوم بها وزارة الداخلية بفكر واستراتيجية أمنية جديرة بالاحترام، فها هو جهاز الأمن الوطنى يقوم بتوجيه ضربات موجعة للعناصر الإرهابية، وذلك من خلال إلقاء القبض على الكثير من المتورطين فى التنظيمات الإرهابية التى خرجت من عباءة جماعة الإخوان المحظورة، فقد تمكنت أجهزة الأمن من الوصول بشكل سريع جدًا إلى هؤلاء المتورطين فى الخلية الإرهابية التى أطلقت على نفسها «كتائب حلوان»، ونفس الشىء فعله جهاز الأمن الوطنى مع تلك الفئة الضالة التى نسبت نفسها إلى تنظيم «داعش» الإرهابى، وغيرهم الكثير والكثير من أصحاب الضمائر الميتة.
وإحقاقًا للحق فإن ما تقوم به وزارة الداخلية فى تلك المرحلة الدقيقة التى نعيشها الآن سيذكره لها التاريخ فيما بعد، بل سيتذكره كل شخص مخلص يعيش على أرض مصر، فقد تحملت وزارة الداخلية مسؤوليات جسامًا من أجل الحفاظ على الوطن، تلك المسؤوليات التى قدمت خلالها خيرة أبنائها من الضباط والمجندين فداء لمصر الذين اغتالتهم يد الغدر والخسة.. ولم يتوقف عطاء وزارة الداخلية عند هذا الحد فحسب، بل قفت جنبًا إلى جنب مع قواتنا المسلحة فى حماية الشعب حينما خرج بالملايين فى ثورة 30 يونيو، رافضًا حكم تلك الجماعة الإرهابية التى حكمت مصر على مدى عام كامل، وكادت أن تقضى على مقدرات بلد فى حجم ومكانة مصر.
إننى أشعر بالفخر بهذا المظهر الحضارى الذى أصبحت عليه الآن منطقة وسط القاهرة، تلك المنطقة التاريخية، بعد أن نجحت الدولة فى تطهيرها من الباعة الجائلين، وأيضًا لأننا نعيش إرهاصات الديمقراطية التى ننشدها، ونحن نرى رئيس الجمهورية وهو يمنح الكثير من اختصاصاته بكامل إرادته لرئيس الوزراء، ولبعض الوزراء، حتى يتسنى لهم إنجاز أكبر قدر من المهام بشكل سريع دون ضياع للوقت أو للجهد.. ولأننا نمتلك دبلوماسية على مستوى عال من الحرفية، نجحت فى إيجاد حل لمشكلة سد النهضة بما لا يؤثر على وضع مصر المائى.. ولأننا لدينا دولة قوية استطاعت أن تجبر أمريكا على سحب تصريحاتها المستفزة التى تتهم فيها مصر والإمارات بتوجيه ضربات جوية إلى ليبيا، فبعد 24 ساعة من خروج هذا التصريح الأمريكى يخرج تصريح آخر من الخارجية الأمريكية يفيد بأن مصر لم تقم بأى تدخل عسكرى فى ليبيا.. ولأننا لدينا أجهزة أمن على درجة عالية من الكفاءة والحرفية التى أجبرت العناصر الإرهابية على العودة إلى الجحور مرة أخرى، بعد أن تمكنت من تجفيف منابع تمويل تلك الجماعات الإرهابية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة