على مدى أكثر من ثلاثة أعوام، يتشبث مؤيدو مبارك باجترار خرافة كبرى، يعلكونها كما تعلك بنات الهوى «اللِبان»، أو مثلما «يجشُّ» بعير شعيرًا فى حلقه، وتتمثل فى أن التاريخ سينصف المخلوع ذات يوم، وسيسجل ما يزعمون أنها «إنجازاته» بأحرف من نور، وربما لؤلؤ منثور، فى أنصع الصفحات.
إنجازات مبارك.. عبارة لا رد عليها إلا بمقولة العبقرى عبدالسلام النابلسى: «أيتها السماء صبى لعنتك على الأغبياء»، فما نعرفه من إنجازات العقود الثلاثة الجرداء الدميمة الذميمة، لا يعدو إلا أن يتمثل فى بلوغ نسبة الفقر نحو أربعين بالمائة، ومثلها أو أقل قليلا نسبة الأمية، وكذا بلوغ عدد أطفال الشوارع بضعة ملايين، هذا بالإضافة لما ترك الشيخ الثمانينى الذى يخضع للعلاج بأرقى المستشفيات، حتى الآن، من ميراث صحى ملعون، من أبرز مفرداته: أن سرطان الأطفال يعد الأعلى عالميًا، وأمراض سوء التغذية تكاد تفتك بتلاميذ المدارس فى القرى، ناهيك عن الفشل الكلوى الناجم عن سوء مياه الشرب، وكذا الالتهاب الكبدى الذى ما زال القضاء عليه حلمًا بعيد المنال.
وإلى جانب تلك «الإنجازات»، أمعن المخلوع فى توزيع الأراضى على الطبّالين، وكأنها من ميراث أسلافه، ولم يتورع نظامه عن بيع أصول الدولة بخسًا، وشهد عهده الذميم المذموم أبشع حوادث القطارات والسيارات والعبّارات وانهيار حجارة الجبال على رءوس ساكنى العشوائيات، واعتقال المعارضين، وتجريف الثقافة، و«تسمين» الفساد والإفساد.
حديث الفساد يطول، وقائمة الإفساد متخمة، ولغة الأرقام حاسمة لا تحتمل رأيين، ولعل عبارة العبقرى الراحل جلال عامر اختزلت عهد مبارك برشاقة وإيجاز بديعين كالعادة: «يا ريس يا ريتك ضربت مصر الضربة الجوية، وضربت إسرائيل الضربة الاقتصادية والصحية والسياسية»!.
تلك إذن الإنجازات التى يجترّها المخطوفون ذهنيًا لمبارك، من الفصيلة «العُكاشية» أو الـ«آسفين يا ريس»، الذين جعلوه كالمرشد العام فى جماعة الإخوان، فباعوا عقولهم له مجانًا، وتركوا أنفسهم بين يديه كالموتى بين يدى المغسّل، فى مشهد كوميدى أسود، يزداد اسودادًا و«غمقَا» أن المخلوع ذاته ليس بأقل انخطافًا ذهنيًا من مؤيديه، فالرجل يظن - وكل ظنه إثم - أن عهده جاء بالخير العميم والرغد الوفير، وكيف لا؟ فقد شنفت أذناه أغنيات «اخترناه وبايعناه» ولم يقرأ سوى مقالات «طشة الملوخية» وتقارير الصحافة التعبيرية، فأعمت الأكاذيب السميكة بصره وبصيرته، فانفصم عن واقعه، لا يحس حقيقة أن نظامه يغرق فى وحل الفساد ومستنقعات الضلال الآسنة.
«لقد أديتُ واجبى.. لم أكن أنتوى.. إن حسنى مبارك يعتز بما قضاه فى خدمة مصر وشعبها».. هكذا تحدث المخلوع فيما كانت الميادين تشتعل غضبًا، وهتافات الحناجر كالخناجر تطعن جبروته: «ارحل يعنى امشى».. وهكذا تحدث فى مرافعته عن نفسه أمام المحكمة بالجلسة الأخيرة.. ثلاث سنوات ونصف انقضت، ومبارك هو مبارك، يعيد استنساخ المقولات «الصابونية» اللزجة الفارغة، حول إنجازاته وتضحياته وبطولاته.
على أن كل خطايا نظام مبارك تقع فى كفة، والتمثيلية السمجة والممطوطة لدخوله ساحة المحكمة أول أيام الثورة، متهمًا فى كفة أخرى، فالرجل الذى تجبّر مثلما «النمرود» وتصرف وكأنه قادر على أن يحيى ويميت، وخاطب المصريين من «طرف منخاره»، كان يمثل أمام القضاة مستلقيًا على ظهره، فى مشهد فج وملىء بـ«المسكنة والضِعة»، إلى درجة أن السيدة جيهان السادات لم تستسغ الأمر فقالت فى برنامج تليفزيونى: «لم يكن المنظر لائقًا، كنت أتمنى أن يدخل منتصب الهامة، فهو عسكرى فى المقام الأول».
ومع سيناريو الاستلقاء على الظهر، وكذا الأخبار «المشبوهة» التى تسربت بكثافة إلى الصحف والفضائيات، وتضمنت ما يزعم أن المخلوع سقط أرضًا فأصيب بكسر فى عظام الحوض، أو ما يدعى بأنه يبكى حزنًا على ما آل إليه حاله وهو فى أرذل العمر، وصولًا إلى ما يسمى بانفرادات بأنه يحتضر، إلى آخر ألاعيب عملية غسيل السمعة الممنهجة التى انضوت تحت رايتها كتائب المدلسين وتحلّق أنفار «انكشارية الفضائيات»، طرأ تغير على الصورة الذهنية عن «مبارك المتفرعن» لدى قطاع كبير من البسطاء الطيبين، فيما ساهمت فترة حكم «الإخوان الفاشلين» بدورها فى تفشى عبارة: «ولا يوم من أيامك يا أبوعلاء».
يقال: إن تكرار الأكاذيب يكسبها قوة السحر.. لكنه سحر مؤقت سرعان ما يتهاوى، لأنه إذا كانت للزيف أرجل فللحق أجنحة، أو كما تقرر الحكمة: «فى مستنقع الأكاذيب ليس سوى الأسماك النافقة»، وربما كما تقول العبارة اللوذعية الألمعية للمعزول محمد مرسى: «الحق أبلج والباطل لجلج»!
فعن أى إنجازات لمبارك يا ترى سيتحدث التاريخ؟.. هل نجحت عمليات غسيل السمعة أم أن «البقع الداكنة والعميقة» ستستعصى على مساحيق التنظيف أو بالأحرى مساحيق التزوير؟.. هل سيقرأ أولادنا وأحفادنا عن مبارك آخر غير الذى عرفناه وخلعته ثورة معجزة؟
الإجابة المتسرعة قد تكون بنعم، لكن التمعن فى الأمر يفضى بالضرورة إلى أن التاريخ الذى يقول مبارك، إنه ينتظر إنصافه، لن ينسى دراما السقوط، وما فيها من تصاعد بلغ ذروته بمشهد الأحذية ترتفع فى ميدان التحرير، ردًا على توسلاته فرصة الخروج المشرف، ولن يغفل أبدًا عن أنه كان الفرعون الأول الذى يدخل القفص مخلوعًا بعد مليونية طالبت بمحاكمته.
الذاكرة الشعبية ستروى التاريخ جيلًا بعد جيل، وستحكى الحكاية: حكاية شعب، والعمليات المشبوهة لغسيل السمعة لن تجدى نفعًا، فقد قضى الأمر، وتبوأ مبارك موضعه المستحق، حتى وإن اختلس حكمًا بالبراءة.. لعدم وجود مستندات إدانة كافية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة