بصراحة.. إذا أمعنت النظر فى أحوالنا نحن المصريين الآن ستكتشف أن الغالبية العظمى منا محرومون من نعمة التركيز.. خاصة أولئك الذين فرض عليهم العمل والإقامة فى القاهرة!
لا يقتصر الأمر على كبار السن الذين تتراجع معدلات التركيز لديهم بحكم الضرورة العُمرية، وإنما يعانى من قلة التركيز الشباب أيضا، بجنسيه الذكور والإناث، فإذا قدر لك أن تتابع شابًا ما يتحرك فى الشارع على سبيل المثال فستجد أنه يسير ويقفز ويتلوى ويصطدم مع المارة دون أن يعتذر لأحد أو يعتذر له أحد، فالكل منسحق تحت عجلة اللا تركيز!
اللافت أن غياب التركيز ينتقل كالعدوى من البشر السائرين على أرجلهم إلى الذين يقودون السيارات والحافلات والموتوسيكلات، فكل سائق يقود عربته بعُشر تركيز، فلا ينظر فى المرآة ليكتشف الطريق ولا ينتبه إلى السيارات التى أمامه أو خلفه أو بجواره، فيخترق الطريق بعصبية أو ببرود وكأنه الوحيد الذى يسير فى هذا الطريق، وهكذا يحقق المصريون نتيجة مدهشة على مستوى العالم فى عدد الحوادث المميتة!
المحزن أن قلة التركيز تصيب حتى العاملين والموظفين من الشباب، فعند التعامل مع أى مؤسسة حكومية ستصطدم لا محالة بإجراءات متناقضة يطلبها منك هذا الموظف، ثم يغيّرها ذاك الموظف، الأمر الذى يجعل كل مواطن يضطر للتعامل مع أى جهاز إدارى فى الدولة إلى أن يرفع الشهادتين لأنه نجا من جهنم الروتين عندما ينتهى من عذابات اللف والدوران فى أروقة ومكاتب هذا الجهاز!
فى عملنا الصحفى نفاجأ أيضا بأن كثيرًا من شباب الصحفيين يكتبون موادهم التحريرية بدون تركيز، فتحتشد هذه المواد بأخطاء إملائية وتحريرية وصياغات ركيكة، وإذا طلبت منهم الدقة والإتقان، تلقيت الامتعاض وقلة الحيلة!
أنت تعلم بطبيعة الحال أن غياب التركيز أو قلته يؤديان بالضرورة إلى خروج العمل بصورة سيئة أيا كانت طبيعة هذا العمل، وبالتالى يصعب على أى شعب أن يحقق النهوض المنشود وهو لا يدرى أن (تركيزه) فى تراجع مخيف.
أدرى أن قلة تركيزنا تعود فى المقام الأول إلى الفقر والزحام، فالفقر يشوش الذهن ويجعل صاحبه أسير الحيرة والغم، والزحام يصيب البشر بالاضطراب ويسلب منهم صفاء أذهانهم، ونحن فى مصر – والحمد لله –محشورون بين هاتين المصيبتين، أى بين الفقر والزحام بسبب سوء الأنظمة التى حكمتنا لأنها لم تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، ولم تخطط لمواجهة التكدس البشرى فى القاهرة!
ليت علماء النفس عندنا يخبروننا كيف يمكن استرداد نعمة التركيز التى فقدناها فى خضم الأحداث، وما الوسائل التى تعيد لنا إحساسنا بما حولنا من بشر وحجر وشجر وحديد؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة