يحيى حسين عبدالهادى

إحدى مؤامراتنا الناجحة

الإثنين، 25 أغسطس 2014 06:13 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بينما روح المسيرى تصعد إلى بارئها كانت الحكومة تُعلن عن فشل عملية البيع.. ونجحت المؤامرة

(ومن البَليّةِ أن تٌباع وتٌشترى مصرٌ وما فيـها وألا ننْطقـا).. تذكّرتُ هذا البيت لشاعر النيل حافظ إبراهيم، وسجدتُ لله شكراً أن ألحقنى قبل سبع سنواتٍ بمجموعةٍ من خيرة أبناء مصر الذين لم يكتفوا بمقاومة بيع البنوك الوطنية نُطقاً، وإنما تعدّواْ القولَ إلى الفعل وحاكوا (مؤامرةً) كبرى ضد مبارك ونظامه لإفشال خطته لبيع البنوك الحكومية الثلاثة (الأهلى ومصر والقاهرة) ليلحقوا برابعهم بنك الإسكندرية الذى صار فرعاً لبنكٍ إيطالى.. ومن المؤكد أن كثيرين شاركونى الحمد وهم يتابعون محافظ البنك المركزى هذا الأسبوع وهو يعلن أن البنوك الحكومية الثلاثة ستطرح شهادات استثمارٍ جديدة لتمويل مشروع قناة السويس.. قبل ذلك كانت البنوك الحكومية الثلاثة قد تبرّعت بما يزيد على 150 مليون جنيه لصندوق تحيا مصر.. وكان رئيس بنك الإسكندرية أنتيسا سان باولو الإيطالى (هذا هو اسم بنك الإسكندرية حالياً بعد أن تمت خصخصته منذ سبع سنوات) قد رفض دعوة التبرع لنفس الصندوق، وهذا شىء منطقىٌ، فالبنك لو وافق على مبدأ التبرع لكان أوْلى به صندوق (تحيا إيطاليا) وليس (تحيا مصر).. فى نفس اللحظة كان الطاغية يقرأ خطاباً رئاسياً فى قاعة المحكمة، يصف فيه من ثاروا ضد استبداده وفساده بالمتآمرين.. لم أغضب من الرجل وإنما أشفقتُ عليه.. أعرف أن الفرعون لا يفهم إلا غَرَقاً (حتى إذا أدركه الغرق).. لكن حتى هذه لم يفعلها.. الطاغية الثمانينى ودفاعه مشغولون بالمراوغة ليفلت من عقوبة قاضى الأرض، بدلاً من التوبة إلى الله والاعتذار إلى الشعب ليفلت من عقاب قاضى السماء.
عودة إلى تلك المؤامرة التى نفذناها قبل ست سنوات وأُذكّركُم بمقدماتها.. ففى أكتوبر 2006 تم بيع بنك الإسكندرية بما يوازى 11 مليار جنيه فقط بعد أن تحمّلت الحكومةُ نحو 9 مليارات جنيه لإعادة هيكلته وتجهيزه للبيع، أى أن صافى الثمن 2 مليار جنيه فقط.. وكان منظرُ الوزراء والمسؤولين مضحكاً ومؤسفاً فى آنٍ واحدٍ وهم يتزاحمون فى المؤتمر الصحفى لإعلان تفاصيل الصفقة، وكلٌ منهم يحاول أن ينسب لنفسه الفضلَ فى بيع هذا البنك الكبير بما يساوى بالكاد قيمته الدفترية!.. كان أكثرهم ابتساماً وأقلهم مزاحمةً محمود عبداللطيف رئيس البنك.. فى اليوم التالى عرفنا جميعاً أن الرجل صار رئيس البنك فى نسخته الإيطالية.. بعد خمس سنواتٍ كان محمود عبداللطيف أول مسؤولٍ يطرده العاملون أثناء ثورة يناير.. ذَهَب محمود عبداللطيف.. لكن بنك الإسكندرية كان قد ذَهّبّ مع الريح.
قبل بيع بنك الإسكندرية، كان المسؤولون المصريون قد نَفَواْ ما أعلنه مسؤولو المؤسسات الدولية بواشنطن من أن الحكومة المصرية ستبيع بنكاً حكومياً خلال عامين كمقدمةٍ لبيع باقى البنوك الأربعة.. وبعد النفى تم بيع بنك الإسكندرية دون أدنى شعورٍ بالخجل.. ومع بيْعه صرّحت الحكومةُ بأنها ستتوقف عن بيع البنوك العامة.. وهو ما لم نصدقه طبعاً.. فتنادى عددٌ من المخلصين من أقصى اليمين الوطنى إلى أقصى اليسار الوطنى لتدشين حركة (لا لبيع مصر) التى ضمّت عدداً من كبار (المتآمرين) كالدكتور عزيز صدقى والدكتور عبدالوهاب المسيرى وغيرهما وقرروا تأجيل اختلافاتهم السياسية ورؤاهم الاقتصادية والاصطفاف لإيقاف نزيف بيع الأصول العامة إلى أن يسقط هذا النظام وتعود مصر إلى أهلها.. شرّفنى الكبار بأن أكون منسقاً للحركة التى جاء فى بيانها التأسيسى نصّاً ما يلى (لم تقتصر حمى البيع على عددٍ من شركات قطاع الأعمال التى تم تخسيرها عمداً وإنما امتدت لتشمل كل شئٍ ينبض بالحياة فى مصر، الرابح قبل الخاسر، بما فيها البنوك والجامعات والتأمين الصحى والأراضى.. وأصبحت عملياتُ البيع نفسُها مرتعاً للفاسدين من مصاصى دماء الشعب من رموز النظام وأقاربهم وأصهارهم وحلفائهم من المرابين الأجانب.. وأصبح واضحاً أن هذه العُصبة فى سباقٍ مع الزمن لإنهاء مهمتها، وهو ما يُحتّم فى المقابل على كل القوى الوطنية أن تُسابق الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخالبهم، فنحن أصحاب المال الذى يُنهب والوطن الذى يُباع..).
كان أول اختبارٍ حقيقىٍ للحركة هو بيع بنك القاهرة.. إذ أن الحكومة التى سبق وأن صرّحت قبل شهورٍ بأنها لن تبيع بنوكاً أخرى بعد بنك الإسكندرية، أعلنت (كما توقّعنا) عن طَرْح بنك القاهرة للبيع، دون أن يرمش للكاذبين جفن.
أطلقنا ضربة البداية فى المقاومة بالدعوة إلى حلقةٍ نقاشيةٍ فى نقابة الصحفيين عن (مخاطر بيع البنوك الوطنية فى إطار إعلان الحكومة عن بيع بنك القاهرة) بمشاركة كلٍ من الخبراء (وفقاً للترتيب الأبجدى): إبراهيم العيسوى وأحمد السيد النجار وجودة عبدالخالق وعبدالحميد الغزالى وعبد الخالق فاروق.. ثم انطلقت المعركة.. كان منطق رفض بيع البنوك واضحاً حتى للمؤمنين باقتصاد السوق والمؤيدين للخصخصة.. كنّا نقول (كله إلا البنوك) لأن هذا النظام سيسقط حتماً فى يومٍ ما، وسيأتى نظامٌ وطنىٌ لا بد أن يُفكّر فى تنفيذ مشروعاتٍ كبرى لصالح الشعب.. هذه المشروعات ستحتاج إلى تمويل.. لن يحصل عليه إلا من بنوكٍ حكوميةٍ لأن البنوك الأجنبية تبحث عن الربح السريع من قروض شراء السيارات والسلع الاستهلاكية مثلاً.. إذا بِيعت البنوك الحكومية فإن أى نظامٍ وطنىٍ فى المستقبل سيجد نفسه عاجزاً.. كنّا نقول ذلك قبل سقوط مبارك وقبل مشروع تطوير قناة السويس بسنوات.
اتسعت جبهة المقاومين من كل التيارات.. وعندما سُئل المصرفى الوطنى الشهير الدكتور/ على نجم كيف تُقاوم بيع بنك القاهرة رغم أنك لست معروفاً بناصريتك؟ أجاب (ليس ضرورياً أن تكون ناصرياً لترفض بيع البنوك الوطنية.. يكفى أن تكون مصرياً) ومات الرجل أثناء دخوله أحد الاستوديوهات وهو يقاتل دفاعاً عن بنوكنا الوطنية.. وقامت جريدة الوفد الليبرالية بدورٍ رئيسىٍ فى مقاومة البيع مما أدهش الكثيرين.
قمنا بالتذكير بتجربة طلعت حرب فى إنشاء بنك مصر لعّل كَهَنة البيع يخجلون.. فإذا بأحد (خبراء) أمانة السياسات يتهكّم على أفكار طلعت حرب وأعماله ويعتبرها صالحةً للثلاثينيات ولا تصلح لزماننا الذى لا يلائمه إلا الفكر الجديد!.. ثم استلهمنا دعوةَ سعد زغلول للمصريين سنة 1920 لسحب ودائعهم من المصارف الأجنبية وإيداعها فى بنك مصر، فدَعَوْنا مُودعى بنك القاهرة إلى سحب أرصدتهم وتحويلها إلى بنك مصر حتى لا تُستخدم فى تدعيم اقتصادياتٍ أجنبيةٍ على حساب اقتصادنا.. فإذا برئيس بنك مصر 2007 يُهدد بمقاضاتنا بتهمة التحريض على تخريب الاقتصاد القومى (!).
قلنا للبنوك الأجنبية المُحتمل تقدمها لشراء بنك القاهرة إننا سندعو لمقاطعتها ومقاطعة البنك بعد بيعه، لأننا نعتبر كل من يتقدم لشراء بنك القاهرة عدواً للشعب المصرى، شأنُه فى ذلك شأنُ التاجر الذى يشترى المسروقات، فالشعب المصرى صاحبُ هذا البنك لم يُفوّض أحداً من أولئك الذين يقومون بالبيع، فضلاً عن أنه لا يثق بهم.
فى يوليو 2008، وبينما روح المسيرى تصعد إلى بارئها، كانت الحكومة تُعلن عن فشل عملية البيع.. ونجحت المؤامرة.. وها هى مصرُ بعد ست سنواتٍ تجنى ثمار مؤامرتنا.. فأما (المتآمرون) من حركة (لا لبيع مصر) فقد مات بعضهم قبل أن يرى بعثَ الوطن مثل عزيز صدقى وعبد الوهاب المسيرى وعبد الحميد الغزالى وعلى نجم وغيرهم.. ومن بقى منهم على قيد الحياة يشعرون بالرضا الآن لأن مؤامرتهم نجحت وأسهموا فى احتفاظ مصر ببنوكها، ولا يطلبون من أحدٍ جزاءً ولا شكورا.. لا يريدون إلا ما قاله صلاح جاهين فى رائعته التى شَدَت بها أم كلثوم (تعالوا يا أجيال يا رمز الأمل.. من بعد جيلنا واحملوا ما حمل.. وافتكروا فينا واذكرونا بخير.. مع كل غنوة من أغانى العمل).. يشعرون بالرضا، ولكنه رضاً مشوبٌ بالمرارة وهم يشاهدون سَدَنَة البيع يعودون للمشهد مرةً أخرى دون أن يُحاسَب منهم أحدٌ على جريمة القرن الحقيقية.. بيع مصر.. بالمناسبة رئيس بنك مصر 2007 لا يزال رئيساً لبنك مصر 2014.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة