هو الأقرب إلى روحى حتى هذه اللحظة، وكنا كما لو أننا شخص واحد.. كنا فى منتصف مرحلة الشباب «سنة 1977»، وكنا قد تركنا الوطن والتحقنا سويا بمنظمة التحرير الفلسطينية، كنت أنا فى الإعلام الموحد وتحديدا فى وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا» وكان هو زميلى، لكنه كان قد باح لى بسره الكبير بأنه ملتحق بمنظمة «أيلول الأسود» وعينوه فى وكالة الأنباء كغطاء يحميه من الفضول والتجسس وعملاء الأجهزة الاستخباراتية التى كانت تمتلئ بها المنطقة الشرقية فى «بيروت»، وتحديدا فى «شارع الجامعة العربية» المعروف فلسطينيا باسم «الشارع الأخير»، كان اسمها «س. ب»، كان صاحبنا يعشقها ويعتبرها رمزا لكل فلسطين، كانت جميلة، وحتى اليوم لم يعرف لون عينيها، كان يقول لى بأن عينيها فى مرة خضراء ومرة زرقاء، لأنه لم يكن يقدر على التركيز فى رؤية عينيها الحزينتين دائما حتى لا يبكى، طلب الزواج منها من أخيها وكان صديقا لنا، لكن أخاها رفض، حاول «هو» أن تتوسط له زوجة شقيقها، لكن شقيقها رفض.
وعندما سأله: «لماذا؟» قال له بوضوح: «أنت لا مستقبل لك إلا السجن أو القتل، وأنا لا أريد لأختى الوحيدة أن تترمل»، وكتبت «أنا» عنها «هى» قصة قصيرة ونشرتها فى مجلة «الكفاح العربى» اللبنانية عن هروبها من حصار «تل الزعتر»، مرت 36 سنة وتكررت مرات سجنه «هو» لكنه لم يقتل كما كان شقيقها «هى» قد تنبأ، لم يمت «هو» واقترب اليوم سنه من السبعين، وجاءنى بالأمس، بكى كثيرا، دخن الشيشة بشراهة بالرغم من إجرائه عملية القلب المفتوح بعد الذبحة الصدرية التى أصابته بعد خروجنا من «بيروت» فى سنة 1982، لم أسأله عن سبب بكائه، احترمت صمته، رفع رأسه فى تثاقل وقال: «أخاف عليها فى غزة، أعرف أنها ليست أفضل من الآلاف الذين قتلوا تحت قصف طائرات الصهاينة، نعم إنها ليست أفضلهم ولكنها على أية حال رمز لكل الفلسطينيين، ليست رمزا لغزة وحدها بل رمزا لكل فلسطين».
قال هذا ووقف مستعدا للمغادرة والتفت «أنا» بعيدا عنه حتى لا أراه بهذه الدرجة من الألم وسمعته يقول: «أنت تكتب فى صحيفة «اليوم السابع»، وربما تقرأ «هى» لك، اكتب لها على لسانى أنى أحبها اليوم كما أحببتها دائما، وعندما التفت ناحيته وجدته قد ابتعد عنى فى طريقه إلى بيته القريب من المقهى: أعرف أنه كان قد خبأها فى قلبه عصفورا أخضر أو أزرق العينين، أعرف أنها تركته بعد أن رسمت على جبينه صورة امرأة منهكة، مفعمة بكل أغانى «فيروز» ومياه شاطئ «الروشة» فى بيروت.
أعرف أن الطريق الطويل باعد بين يديهما لكن ملمس يدها الحانى مازال على جبهته يمسح عرقه، الآن أبكى، هل تغسل الأحزان الدم فى العروق؟ نعم «هى» ارتحلت كما يرتحل الفرح ولم تترك خلفها غير كهل طاعن فى السن مازال يبوح للجميع بحبها بالرغم من عدم بوحه بأى سر من أسراره كلها، كانت «هى» حبه الكبير وسره المعشوق الذى رفض أن يخفيه، آه، مال هذا الليل الطويل لا ينتهى، ثمة عاشق تصارعه ذكريات عشق لم يكتمل، وثمة أغنية لم تتم، وفراش يصيبه بالأرق أكثر مما يدعوه للنوم، فإذا ما نام داهمته الطائرات المغيرة تقصف الأطفال فتشظى الأجساد ويملأ الدم الكرة الأرضية يلغ فيه كل من هب ودب، وتبقى «غزة» وتبقى «فلسطين» وتبقى «س. ب» فى ذاكرة لا تحترق، وها أنا أقول لها: «هو يحبك اليوم كما أحبك دائما»، لعلها تقرأ ما كتبته فى يوم من الأيام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة