إن الأزهر الشريف هو المؤسسة الدينية الإسلامية الأهم والأكبر فى العالم الإسلامى، وقد بدأت الدعوة إلى إصلاح الأزهر والمناهج التى تدرس فيه منذ استقر الأمر لدولة محمد على الكبير واتجاهه إلى الاستفادة من الحضارة الأوروبية آنذاك، وإرسال البعوث العسكرية والمدنية إلى إيطاليا وفرنسا وروسيا وغيرها، وكان من بين أعضاء هذه البعوث مشايخ وعلماء من الأزهر أمثال رفاعة الطهطاوى وغيره، وقد أظهرت الدعوات الأولى لإصلاح الأزهر الصراع الممتد داخله بين الفكر العقلانى النقدى الذى مثل دائما الأقلية من جهة، والفكر المحافظ الذى مثل التوجه الرئيسى داخل الأزهر من جهة أخرى، وهذا الصراع هو نفسه الممتد فى العالم الإسلامى كله منذ بدء الرسالة المحمدية وحتى الآن، وحتى فى مرحلة ازدهار الحضارة والثقافة الإسلامية عبر ثمانية قرون أضاءت العالم كله فى الأندلس وأثرت وتأثرت بالعالم وحضاراته وثقافاته، جرى إحراق كتب المفكر العقلانى «ابن رشد» ونفيه فى تعبير واضح وعنيف عن هذا الصراع حول حرية الفكر والاعتقاد، بل حول حق الاجتهاد الذى طالما وضع له المحافظون حدودا وقيدوه بعشرات القيود ثم ادعوا أنه مطلق وحر.
ولعل ما ذكره الإمام محمد عبده عن تجربته فى محاولة إصلاح الأزهر خير تعبير عن هذا الصراع، وسوف أذكر جانبا منها ليتضح المعنى حيث قال الإمام: «إن نفسى توجهت إلى إصلاح الأزهر منذ كنت مجاورا فيه، بعد التلقى عن السيد جمال الدين، وقد شرعت فى ذلك فحيل بينى وبينه، ثم كنت أترقب الفرص، فما سنحت إلا واستشرفت لها وأقبلت عليها، حتى إذا ما صادفت الموانع لويت وصبرت مترقبا فرصة أخرى، وبعد أن عدت من المنفى حاولت إقناع الشيخ محمد الإنبابى شيخ الأزهر بشىء فلم يصادف قبولاً.. قلت له مرة.. هل لك أيها الأستاذ أن تأمر بتدريس مقدمة ابن خلدون فى الأزهر؟ ووصفت له من فوائدها ما شاء الله أن أصف، فقال: إن العادة لم تجر بذلك. فانتقلت به فى شجون الحديث إلى ذكر الشيوخ، وسألته: منذ كم مات الأشمونى والصبان؟ قال منذ كذا. قلت: إنهما حديثا عهد بوفاة، وهذه كتبهما تقرأ بعد أن لم تجر العادة بذلك، فسكت ولم يدخل فى الحديث.. ثم قال الإمام محمد عبده: إن بقاء الأزهر متداعيا على حاله فى هذا العصر محال، فهو إما أن يعمر وإما أن يتم خرابه، وإننى أبذل جهد المستطاع فى عمرانه، فإن دفعتنى الصوارف إلى اليأس من إصلاحه فإننى لا أيأس من الإصلاح الإسلامى، بل أترك الحكومة واختار أفرادا من المستعدين فأربيهم على طريقة التصوف التى ربيت عليها ليكونوا خلفا لى فى خدمة الإسلام، ثم أؤلف كتابا فى بيان حقيقة الأزهر أمثل فيه أخلاق أهله وعقولهم ومبلغ علومهم وتأثيرهم فى الوجود وأنشره باللغة العربية ولغة إفرنجية، حتى يعرف المسلمون وغيرهم حقيقة هذا المكان التى يجهلها الناس حتى من أهله... ودار حوار بين الإمام محمد عبده والشيخ البحيرى عضو مجلس إدارة الأزهر فى اجتماع المجلس حول إصلاح البرامج التعليمية فى الأزهر ورد فيه ما يلى:
- الشيخ محمد البحيرى: إننا نعلمهم كما تعلمنا.
- الإمام محمد عبده: وهذا الذى أخاف منه.
- الشيخ البحيرى: ألم تتعلم أنت فى الأزهر، وقد بلغت فى مراقى العلم وصرت فيه العلم الفرد؟
- الإمام محمد عبده: إذا كان لى حظ من العلم الصحيح الذى تذكر، فإننى لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغى ما علق من «.....» الأزهر.
وقد ورد عن الإمام محمد عبده أنه قال أيضا شارحا حاله عند محاولة إصلاح الأزهر وكان يوجه كلامه إلى بعض زواره من مفكرى الغرب: ها أنا ذا، كما ترونى، وحيدا ليس لى من الأساتذة من يساعدنى، ولا من دعاة الخير من ينصرنى، أريد أن أعلم فى هذا الجامع شيئا نافعا بدلاً من هذه الشروح العتيقة البالية الخالية من المعنى، التى هى أضر من كتبكم القديمة المؤلفة فى القرون الوسطى.. ولكن هل أجد من يساعدنى على ذلك؟ وإن لم أجد فهل أفلح فيه وحدى؟.. هذه العبارات التى ذكرها الإمام عن تجربته الشخصية تعبر بشكل واضح عن الصراع بين الفكر العقلانى النقدى وبين الأغلبية المحافظة، وتؤكد أيضا مدى المقاومة العنيفة التى يواجهها كل من يدعو إلى إصلاح وتطوير الأزهر والخطاب الدينى.
ومع الأحداث التى مر بها بلدنا خلال الأربع سنوات السابقة والتى هددت كيان الدولة المصرية، وكان للخطاب الدينى المتطرف فيها دور أساسى تجددت الدعوة إلى حتمية تطوير الخطاب الدينى وبالتالى حتمية إصلاح الأزهر الشريف وهو الجهة المسؤولة عن الخطاب الدينى، ومن البديهيات أن فاقد الشىء لا يعطيه، ولعل ما شهدته جامعة الأزهر من أعمال عنف بعد إزاحة حكم الإخوان المسلمين على إثر اندلاع ثورة 30 يونيو خير دليل على أن الأزهر فى أمس الحاجة إلى الإصلاح، حيث بينت هذه المواجهات أن غالبية طلاب وطالبات وأساتذة الجامعة ينتمون- إن لم يكن تنظيميا فهو انتماء فكرى وسلوكى- لجماعة الإخوان، أى لمنهج احتكار الدين وآلية السمع والطاعة بل وأوهام استعادة الخلافة الإسلامية، فمناهج الأزهر الحالية لم تحصن أبناءه وعلماءه من اختراق الجماعات والأفكار المتطرفة، ونتذكر فى هذا الصدد أن الشيخ «على عبدالرازق» جرى طرده من هيئة كبار العلماء فى الأزهر بعد نشر كتابه عن «الإسلام وأصول الحكم» الذى توصل فيه إلى أن نظام الخلافة ليس أصلا من أصول الحكم فى الإسلام، وهناك عشرات الوقائع الأخرى ضد أساتذة ومفكرين تؤكد هذا الطابع الأساسى المحافظ للمؤسسة، وهو محافظ فكريا واجتماعيا.
ولذلك أقول لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور الفليسوف أحمد الطيب الذى أحبه وأحترمه وأقدر دوره الوطنى خلال أربع السنوات السابقة فى مواجهة الجماعات المتطرفة التى استهدفته شخصيا، ولكن عملا بما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم ورواه مسلم أنه قَالَ: «الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ يَارَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: للهِ، ولكتابه، ولِرَسُوْلِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ»، أقول لفضيلته: إن المواجهة الشجاعة والشاملة لمحنة الفكر والخطاب الدينى فى أيامنا التى تتسبب فيها جماعات التكفير والعنف الهمجى التى ترفع رايات الإسلام وتتكلم باسمه، تقتضى علينا أن نفتح ملف إصلاح الأزهر ولكن بعيدا عن الحلول السطحية والشعارات الفارغة فالأمر يحتاج إلى معالجة جذرية تشمل المناهج وطرق التدريس، وهذا لن يتحقق إلا من خلال تأسيس مجموعات عمل تمتلك رؤية نقدية دون قيود أو أسقف، بحيث تقوم بإعادة النظر فى أفكار وأقوال وكتب فقهاء وعلماء الماضى، التى يتم تدريسها فى المدارس والجامعات الأزهرية بهدف إعادة تقييم ينتج عنه حذف كل ما يثبت عدم فائدته أو ضرره، وذلك بعيدا عن القداسة الزائفة التى أضفتها المؤسسة على هذه الكتب، فالفقهاء والعلماء القدامى بشر ونحن بشر أدرى بشؤون دنيانا التى باتت أكثر تعقيدا وتنوعا وثراء، مما كان عليه الحال حين عاش هؤلاء الفقهاء الأجلّاء فكانوا أبناء زمانهم ونحن أبناء زماننا، ويفتح زماننا هذا أبوابا للمعرفة والتقدم لم يعرفها القدماء، نحن فى حاجة ملحة إلى الفكر النقدى الذى يحترم التراث ولكن لا يقدسه.
أقول لفضيلة الأمام الأكبر: إن بلدنا لا يمكن أن يعيد بناء نفسه ومستقبله ومواجهة المخاطر المحيطة به إلا بثورة اجتماعية تقودها ثورة ثقافية، وهذا كله لن يتحقق إلا بإصلاح الخطاب الدينى والمؤسسات القائمة عليه وفى مقدمتها مؤسسة الأزهر فلنبدأ يا فضيلة الإمام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد
الخطاب الدينى
عدد الردود 0
بواسطة:
علية جمعة محمود سالم
كلمة هامة