أيها القلب لا تأس ولا تبتئس...
إن الذين رحلوا عنك فإما أن الرحيل قد اختارهم وإما أنهم قد اختاروا الرحيل...
فأما أولئك الذين اختارهم الرحيل فتلك أقدارهم، وقدرك أنت أيضا يوما ما أن ترحل تاركا قلوبا تفتقد حضورك وتتألم لغيابك وتشتد حاجتها إليك فى حياتها، فكلنا راحلون وإلى الباقى جل علاه منتهانا، وكلنا فى الطريق إليه سائرون فاسأله أن يعوضك فى رحلة الدنيا فقدان الأحبة بمعية حضرته وأن يجمعك وإياهم راضين مرضيين حين الوصول فى خلود جنته.
وأما أولئك الذين اختاروا الرحيل فإنى لأعلم أن شأنهم بقدر ما يحزنك فإنه يحيرك، تتساءل فى ذهول"هل تفنى المحبة؟"، وفى ذهول أكبر تتساءل"هل يمكن أن تحل محلها الكراهية؟!" إنهم حقا محيرون... وأحيانا تفكر فى أنهم خارقون، وأن لديهم اتصالا عجيبا بين العقل والقلب لطالما افتقدته أنت يا عديم الخرق!.
فمن قدراتهم العجيبة أنه عندما يصدر العقل لديهم فى لحظة ما لسبب ما فرمان الرحيل يستقبله القلب بكل طاعة فلا يناقش ولا يجادل، ولا يفعل كما تفعل قلوب اللاخارقين ويستدعى من العقل ذكريات المحبة ليفيض ألما لعله يستعطف العقل بآلامه كى يثنيه عن قراره، ومن قوانينهم العجيبة أيضا أن المحبة تفنى وتستحدث الكراهية من عدم، فإذا بقلوب أسكنتها قلبك قد باتت لا تتجلى عليه سوى بآيات الجفاء والجحود من حيث لا تدرى ولا تفهم: لم ؟...
إن حديث الرحيل حديث ذو شجون...فأنت يا مسكين...ما أتعبك شىء قدر الشوق والحنين...بجنون! ولحن الرحيل- وان اختلفت أيادى عازفيه- لحن أليم قاهر... يبقى صداه مترددا فى جنبات قلبك متخذا من كل ذكرى مدد.. ليخلد للأبد!.
والرحيل هو الرحيل.. ففراق أرضا آوتك، أو زمنا أسعدك، أو قلبا كان لك، كلها صور متنوعة لجوهر واحد، وألم واحد مهما حاولت وصفه لا تسعك الكلمات ولا تسعفك اللغات، جل ما يمكن أن تقوله عن ألم الفراق وعن وصف حنينك أنه سارق الأرواح!! فحين تحن فكأنما روحك ليست معك بل هى هناك...تحوم حول ذاك المكان أو تحلق فى ذاك الزمان أو هائمة فى الوجود تتلمس ذاك القلب، شئ ما بداخلك يتحرك بقوة وتلهف لا تعرف له قرار، شوق يتملكك لا تعرف منه الفرار.
وبرغم كل هذا أدعوك-أيها القلب- مؤمنة بما أقول ألا تبتئس، فوراء كل ألم عظيم حكمة عظيمة من رب العالمين، ولقد اختار الله ألم الفراق ليكون خير مرب فى الطريق إليه، فالفراق معلمك أن لا دائم إلا وجهه، وأننا مفارقون وراحلون وإلى الله منتهون...ولقد فطن العارفون بالله إلى حكمة بالغة فى ألم الفراق الدنيوى، وهو أنه يحيى بنا ذكرى الفراق الأعظم لموطننا السماوى وحنيننا لعالم أتينا منه وسنعود إليه يوما بعدما نتم مهمتنا على الأرض، عالم كنا فيه فى حضرة جامع الكمالات ومنتهى الغايات، فى حضرة رب العالمين... وهذا حديث شرحه يطول لنا فيه يا قلب خوض فى وقت لاحق...
وأما اﻵن يا قلب فاملأ ذاتك بقول الشيخ الكريم: الباقى معك...ما ودعك...، وخفف التحرق لذكرى من اختارهم الرحيل فكلنا مجموعون يوم الجمع عند مضياف كريم وغدا تلقى الأحبة، خلود بغير فرقة...
ولا تحترق أسفا على من اختاروا الرحيل، فقلبك الباكى لفراقهم ينبئ عن صدق نبيل، فالخاسر إذن يا قلب من رحل.. لا من عنه الجافى ارتحل.
صورة أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة