قد يبدو العنوان هو الأغرب بين عناوين شتى سطرها الكاتب خلال رحلة قصيرة فى كتابة المقال التحليلى بدأت من عام 2007 وحتى لحظة قراءة هذه السطور، إلا أن قصة الشاب المصرى إسلام يكن لم تكن باعثا لكتابة المقال، وإنما أحد أجراس الإنذار لعدد ليس باليسير من أبناء المجتمعات العربية الذين ينقلون دونما بذل جهد لازم للبحث والتحليل وإعمال العقل وفهم فضيلة الاختلاف التى تصب فى مصلحة المخلوق العاقل ليفهم أين يعيش بين زملائه على هذا الكوكب ولفتح مساحة كافية للحوار بما يحمله من تأييد ونقد، فطالما عاش أغلب الراضين بالله ربا وبالإسلام دينا و«بمحمد» صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا خلال ما يقرب من 500 سنة مضت فى حالة استعادة حلم الخلافة الإمبراطورية الواسعة حيث يحكم الخليفة بعدل ويعيش بزهد ويعبد بإخلاص استنادا على ما تم ترويجه من روايات غير دقيقة عن عصور الخلافة المتتابعة بعد وفاة الرسول الكريم تولى «أبو بكر الصديق» مهمة الحكم إلى أن جاء عمر بن الخطاب من بعده ليبنى الدولة بحق فيخلق نظما للسياسة ودواوين لإدارة البلاد على غرار ما فعله جيرانه فى بلاد فارس، بل زاد عليهم ما يمكن أن تطلق عليه الآن «الأجهزة المتخصصة» ومن بعده يأتى «عثمان بن عفان» مبتعدا عن زهد «عمر» وحصافته، فتحدث فتنة مقتل عثمان وهى أولى الفتن التى وقعت فى الدولة الإسلامية، وتعرف كذلك بالفتنة الأولى، وهى بداية لأحداث جسيمة عُرفت فى التاريخ الإسلامى بالفتنة الكبرى أدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان فى سنة 35 هـ، ثم تسببت فى حدوث اضطرابات واسعة فى الدولة الإسلامية طوال خلافة الإمام على بن أبى طالب، ولعل عدم حكمته السياسية كانت معولا شديدا فى ضرب أركان فترة حكمه، وصحيح لم يغير عثمان الولاة الذين عينهم عمر بن الخطاب عند توليه الخلافة وذلك لوصية عمر بأن يبقى على ولاته فى مناصبهم لمدة سنة بعد وفاته خشية من تغيير مستعجل يضطرب له أمر المسلمين فقد كان «الفاروق» رضى الله عنه وأرضاه يختار ولاته على أسس الكفاءة وكان يراقب عماله فى أمور الدين والدنيا ولا يتأخر فى عزل من ثبت تقصيره ولم يكن بينهم قرشى أو أحد من عشيرته، إلا أنه لم يكد ينفق العام الأول من خلافة عثمان حتى خرج مما التزم من وصية عمر بإقرار العمال عاما كاملا على أعمالهم من دون تغييرهم، فباشر سلطته فى العزل والتوليه، كانت الولايات تختلف فيما بينها من ناحية الأهمية اختلافا شديدا، فكان لبعضها خطر سياسى وإدارى وعسكرى، وهى تلك الولايات البعيدة التى حررت من السيطرة الرومية والفارسية، وكانت أربعة: الشام ومصر والكوفة والبصرة، لم يلق عثمان بالا للولايات التى لم يكن لها خطر سياسى أو عسكرى. وأبقى على عمال عمر فى تلك الولايات ولم يغير منهم إلا قليلا، إلا أنه سارع فى تغيير العمال فى الولايات الخطرة فور انتهاء العام الأول من حكمه، من أوائل التغييرات السياسية التى قام بها عثمان هو عزل المغيرة عن الكوفة وتولية سعد بن أبى وقاص عليها سنة 24 هـ وكان هذا التعيين بسبب وصية سابقة لعمر بن الخطاب، إلا أن إمارة سعد على الكوفة لم تستمر طويلا حيث اضطر عثمان إلى عزل سعد اضطرارا.
وقد كان سبب عزل سعد هو خلاف حدث بينه وبين عبد الله بن مسعود المسؤول عن بيت المال، حيث اقترض سعد من بيت المال وأعطى به على نفسه صكا، فطلب منه عبد الله بن مسعود بعد فترة أن يؤدى دينه فرفض سعد ذلك وطلب منه أن ينتظر حتى يتيسر له المال، الأمر الذى رفضه ابن مسعود فنشب شجار بينهما انتهى لوصول الأمر لعثمان الذى سارع بعزل سعد وولى بدله الوليد بن عقبة سنة 26 هـ.
لم يكن أهل الكوفة يطمئنون للوليد، لأنه كان من المذمومين فى عهد رسول الله ونزل ذمه فى القرآن، حيث غش الرسول وكذب عليه، وأنزل الله فيه قرآنا فقال «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» وكان هذا الفاسق المقصود هو الوليد، والوليد هو أخو عثمان بن عفان من أمه، وقد تكون هذه القرابة هى التى جعلت الوليد مفضلا على بقية أعلام المسلمين فى إمارة أحد أخطر الأمصار وهى الكوفة، استاء أهل الكوفة من تولية الوليد عليهم فهم لم يكونوا يرون فيه الحاكم الكفء ولا صاحب الدين المستقيم، حتى صلى بالناس وهو سكران، فذهب وفد من أهل الكوفة يشهد على الوليد بمعاقرة الخمر وجاؤوا بخاتمه الذى استلوه من يده وهو سكران دليلا على ذلك، الأمر الذى أثار غضب عثمان وعلى بن أبى طالب وكبار أعيان المدينة فقام بعزل الوليد وأتى به إلى المدينة، وما كان من عثمان إلا أن ولى على الكوفة سعيد بن العاص بديلا عن الوليد سنة 30 هـ.. استقبل أهل الكوفة سعيدا بكل رحابة وكانت الأمور تنبئ بخير بما كان من توافق بين الأمير ورعيته، إلا أن هذا الحال التوافقى لم يستمر طويلا قبل أن يعكره سعيد بن العاص نفسه، ففى عام 33 هـ وفى إحدى الليالى عندما كان الأمير جالسا مع كبار أهل الكوفة قال فى خضم جدال طويل «إنما السواد بستان لقريش» «يعنى أن أرض العراق ملك لقريش» الأمر الذى أغضب كبار أهل الكوفة الذين لم يتأخروا بالرد عليه وقالوا: «إنما السواد فىء أفاءه الله علينا، وما نصيب قريش منه إلا كنصيب غيرها من المسلمين»، فغضب صاحب الشرطة لأن القوم ردوا ردا غليظا على الأمير، فحدث تشاجر واشتباك بالأيدى أدى إلى ضرب صاحب الشرطة وإغمائه، والظاهر أن مسألة الأرستقراطية القرشية وشعور القريشين بتميزهم على باقى المسلمين كان يجابه بمعارضة كبيرة من أهل الكوفة الذين كانوا يرون أن المسلمين سواسية فى كل شىء.
وما زاد من غضب الرعية وأهالى الأمصار وبالقطع رهط من الصحابة هى السياسات المالية التى انتهجها «عثمان» رضى الله عنه، كانت السياسة المالية لعثمان من أكثر الأمور التى أثارت الرأى العام المعاصر له، ويمكن أن نختصر سياسة عثمان المالية فى أنه كان يرى أن للخليفة الحق فى أن يتصرف فى الأموال المسلمين حسب ما يراه من مصلحة، وأنه مادام قد انقطع بحكم الخلافة لتدبير أموال المسلمين، فله أن يأخذ من أموالهم ما يسعه ويسع أهله وأقاربه ولا يرى بذلك خطأ، وأنه لم يكن يرى للمسلمين حقا فى أن يعاقبوه أو حتى أن يراقبوه فى تصرفه بالأموال فهو مسؤول أمام الله وحده، فهو قد أعطى مروان بن الحكم خمس «%20» الغنيمة التى غنمها المسلمون فى أفريقيا، كما أعطى عمه الحكم وابنه الحارث ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى عبد الله بن خالد بن أسيد الأموى ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى المزيد حتى رفض عبد الله بن الأرقم المسؤول عن بيت المال تنفيذ الأمر واستقال من مسؤوليته، وقد استباح حكام عثمان على الأقاليم الأخذ من بيت المال فكانوا يقترضون منه ويأخذون منه ما يشاؤون، حتى استقال عبد الله بن مسعود وهو المسؤول عن بيت المال فى الكوفة، مثلما استقال عبد الله بن الأرقم فى المدينة، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يحتاج الجنود إلى المال فلا يجدوه ويضطر الخليفة ليدفع لهم من أموال الصدقة، ولم يقتصر سخاء عثمان على المال فقط بل ذهب إلى السخاء فى إعطاء الأراضى الكبيرة لأقاربه من بنى أمية، وقد تسبب هذا السخاء فى تكون ملكيات ضخمة فقد مات عبدالرحمن بن عوف تاركا قطع ذهب كسرت بالفؤوس حتى وجلت أيديهم من تكسيره، فنجد أن أصوات المعارضة تجاه الخليفة «عثمان قد علت» حتى كان أبرزها:
أبوذر الغفارى رضى الله عنه الذى كان من أكبر المعارضين للسياسة المالية، فكان يرى عطايا عثمان لمروان بن الحكم وأخيه حارث فينكر ذلك ويستنكره، وكان يتلو قول الله عز وجل: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» وقد شكا مروان بن الحكم إلى عثمان من قول أبى ذر، فأرسل عثمان إليه من ينهاه فقال أبو ذر: «أينهانى عثمان عن قراءة كتاب الله؟» ولم يتوقف أبوذر حتى ألح فى نقده واستنكاره لهذه السياسات حتى أمره عثمان بالخروج من المدينة والذهاب إلى معاوية فى الشام.
وعند وصوله الشام صار ينتقد معاوية أشد الانتقاد لجمعه المال وبناء القصور الفارهة فانتقده بشكل كبير لبناء قصر الخضراء وقال: «إن كنت بنيتها من مال المسلمين فهى الخيانة، وإن كنت بنيتها من مالك فهذا إسراف» وكان يقول: «ويل للأغنياء من الفقراء» حتى أصبح الناس يسمعون له ويتجمعون حوله، فخاف معاوية من أن ينقلب أهل الشام عليه، فكتب إلى عثمان يشكو له أبوذر، فأمر عثمان بأن يجلبوا له أبوذر إلى المدينة، فلما بلغ المدينة أصبح يقول «وبشر الأغنياء بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وحتى أصبح يطعن بعثمان حتى ضاق به عثمان فنفاه خارج المدينة إلى الربذة، فمات هناك غريبًا وحيدًا حتى عجزت زوجته عن دفنه لولا مرور حجاج من أهل العراق بالصدفة».
عمار بن ياسر، وكان أحد أشد المعارضين لعثمان، وكان ينكر عليه تولية أقاربه وسياسته المالية، ففى أحد الحوادث أخذ عثمان من بيت المال وأعطى لأقاربه، فغضب الناس لذلك، ولاموا عثمان حتى أغضبوه، فخرج يخطب بالناس متحديًا: «لنأخذن حاجتنا من هذا الفىء وإن رغمت أنوف أقوام»، فقال له على «إذن تمنع ويحال بينك وبينه» وقال عمار: «أشهد الله أن أنفى أول راغم لذلك» فرد عثمان على عمار ردا قويا وأمر به فضربوه حتى أغمى عليه فأخرجوه محمولا إلى بيت أم المؤمنين أم سلمة، وظل مغشيا عليه طول النهار ففاته الظهر والعصر والمغرب، فلما أفاق توضأ وصلى، وقال الحمد لله ليست هذه أول مرة أوذينا فيها فى الله.
واشترك عمار مع جماعة من أصحاب النبى فى كتابة كتاب يلومون فيه عثمان، وكان عمار هو من تجرأ على حمله والذهاب به إلى عثمان، فقرأ عثمان جزءا منه، فشتم عمار وأمر به فضربوه حتى أصيب بفتق وكان شيخا كبيرا.
وعندما مات أبو ذر منفيا فى الصحراء حزن عليه عمار، وأصبح يلوم عثمان، فغضب عثمان وأمر بنفيه إلى الربذة، كما نفى أبوذر، فغضب لذلك على بن أبى طالب فأقبل على عثمان، ولامه بنفى أبو ذر وطلب منه أن يترك عمار ويتراجع عن قراره، حتى تشاجرا وكاد ينفيه هو أيضا قائلا له: «ما أنت بأفضل من عمار، وما أنت أقل استحقاقا للنفى منه»، وبعد وساطة المهاجرين ووجهاء المدينة تراجع عن قرار النفى بخصوص عمار وعلى.
طلحة بن عبيد الله، كان طلحة أحد أغنياء المدينة ومن أكبر أعلامها، اختاره عمر ليكون أحد أعضاء المجلس الذى اختاره لينصب الخليفة من بعده، إلا أنه لم يشارك فى اختيار الخليفة، حيث كان مسافرًا خارج المدينة عندما توفى عمر، فأرسلوا له يستعجلونه فأقبل إلى المدينة مسرعا، ولكن كانت بيعة عثمان قد تمت، وقد أغضبه ذلك فجلس فى داره ولم يبايع عثمان.
إلا أن مساعى عبد الرحمن بن عوف وعثمان نفسه قد انتهت بقبول طلحة ومبايعته لعثمان بالخلافة، ولكن عندما بدأت المعارضة بالاشتداد كان طلحة من المسرعين إليها، ومن المنتقدين لسياسة عثمان، فلما اشتدت الأمور على عثمان كان طلحة أحد المشاركين فى حصار بيته.
ما سبق هو جانب يبرز عدم مثالية الحكم فى بعض من أزمان الخلافة وبعض من أكبر رموزها، حتى وإن كان صحابيا جليلا مثل «عثمان»، كما يبرز كيف أن بينها عهود ازدهار واستقرار وقوة مثلما حدث فى خلافة «عمر» أى أن العبرة ليست بعنونة الحكم تحت اسم «الخلافة الإسلامية» أو حتى صلاح عرف به البعض أو أنكره البعض عن شخص الخليفة، وإنما فى قدرة الحاكم على الإلمام الكامل بحال المحكومين وابتعاده عن مظاهر الترف وإيثار البطانة، فلم تكن عهود الخلافة المتتابعة خطا واحدا من العدل الملحوظ والشورى فيما بين الناس، بل ذهبت أحيانا إلى المُلك العضوض وحب الدنيا، وهو ما لم يعرفه الشاب إسلام يكن الذى بهره الشعار وفرح بالمال والنساء وأغراه أمراء الحرب ومشايخ الجهالة.. جعل التاريخ بوابة مفتوحة للمعرفة والبحث والدرس وجعلت العقول للفهم ونشأ المنطق للمناقشة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة