يحيى حسين عبدالهادى

الحرب يخوضها المقاتلون.. لا السماسرة

الإثنين، 14 يوليو 2014 06:14 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
1 – رئيس الجمهورية هو قمة السلطة التنفيذية فى البلاد ووظيفته هى الوظيفة الأخطر.. ومن ثمّ فالمنطقى أن يكون راتبه هو الأعلى بين كل العاملين فى أجهزة ومؤسسات الدولة.. كنّا نظن أن هذه من البديهيات‪,‬ ولكن ظهر أن المسألة بها وجهات نظر.. ويبدو أن بديهياتٍ كثيرةً فى مصر قد صارت وجهات نظر.

2 – ما كاد رئيس الجمهورية يُصدر قانوناً يحدد الحد الأقصى للدخول من المال العام باثنين وأربعين ألف جنيه شهرياً، وهو مبلغٌ كبيرٌ يفعل الأفاعيل فى بلادنا.. أو هكذا كان يعتقد مواطنٌ مثلى، خَدَم مصر فى مواقع حيوية وتولى العديد من المناصب القيادية من المستوى الأول كوكيل أول وزارة ورئيس شركة كبيرة ورئيس مؤسسة حكومية مهمة فضلاً على الخدمة السابقة كضابط مهندس فى القوات المسلحة.. كنتُ أعتقد أن 42 ألف جنيه هو مبلغٌ كبير جداً، إلى أن صدر قانون الحد الأقصى فإذا بثورةٍ عارمةٍ من بعض الفئات شعرتُ معها بأن هذا المبلغ يكاد يُلامس خط الفقر عندهم.. إذ ما كاد قانون الحد الأقصى يصدُر حتى انفجرت ماسورةٌ من الغضب والترويع يحمل لواءَها عددٌ من أباطرة الصحافة الاقتصادية وغير الاقتصادية.. أولئك الأباطرة الذين لم يكونوا على مدى العِقد الأخير يمارسون مهنة الصحافة التى نعرفها، وإنما مهنة الاسترزاق.. وبدلاً من أن يُنيروا عقول القراء بكل أوجه الحقيقة كانوا يروّجون لسياساتٍ بعينها لمسؤولين بعينهم أغدقوا عليهم ثمن مواقفهم من أموالنا.. أولئك الذين فضحهم الرائع جابر القرموطى بصراحته وتلقائيته عندما كشف كيف أن هؤلاء المقربين كانت تُحجز لهم الأجنحة الفاخرة فى مؤتمرات شرم الشيخ (على حسابنا)، بينما الصحفيون الحقيقيون الكادحون بحثاً عن الخبر والحقيقة ينامون فى غُرَفٍ ثلاثية.. ما لم يقله الأستاذ جابر (أو ربما لا يعرفه) أن شرم الشيخ هذه هى الحد الأدنى لعالم السفر المخملى للأباطرة المقربين الذين جابوا أرجاء أوروبا وأمريكا بصحبة رؤساء البنوك وشركات البترول ووزراء أمانة السياسات (على حسابنا أيضاً).

3 – تركزت حملة الترويع على الكوارث التى ستحل بمصر جرّاء هذا القانون، ومن بينها هروب الكفاءات من القطاعات الحيوية كالبنوك والبترول وقطاع الأعمال العام.. وكان من بين ما قيل خلال هذه الحملة الممنهجة ما يلى:

أ- إن قيادات هذه القطاعات الحكومية كانوا يتقاضون رواتب أعلى بكثيرٍ أثناء عملهم فى القطاع الخاص وتنازلوا عنها وقبلوا العمل فى القطاعات الحكومية بالرواتب المليونية المتواضعة وذلك حُباً فى مصر، لكن ما دام الأمرُ قد وصل إلى 42 ألف جنيه فقط فقد صاروا يفكرون جدياً فى العودة للقطاع الخاص مرةً أخرى (هل حُبُ مصر له حدٌ أدنى؟!).

ب– وقال أحدهم إن هيكل الأجور فى أحد البنوك سيختلّ، فدخْلُ رئيس البنك سيهبط من عليائه إلى 42 ألف جنيه فقط بينما سائقه الذى بدون مؤهلات سيظل يتقاضى 20 ألف جنيه شهرياً دون تخفيض، فهل يستقيم أن يتقاضى السائق نصف ما يتقاضاه رئيس البنك؟ (ألا يوجد حدٌ أقصى للبجاحة؟).

ج – وكادت إحداهن أن تقول (تبرّع يا أخى المصرى لمساعدة رئيس بنكٍ أو شركةٍ يريد أن يُكمل بناء قصره فى إسبانيا) وهى تصفُ حالة الهلع والضياع التى تعيشها هذه القيادات التى اقترضت قروضاً مليونية بضمان رواتبها المليونية، فمن أين لهم سداد أقساط القروض إذا انخفضت الرواتب؟ (مشكلةٌ فعلاً.. وسؤالٌ لفضيلة المفتى: هل يُعتبر هؤلاء من الغارمين الذين تجوز عليهم الصدقة؟).

4 – ما سبق هو بعض ما قيل فى تبرير رفض القانون.. ولن أردّ عليهم بما يقوله البعض بأن استثناء هذه القطاعات وهؤلاء الأشخاص بالذات لم يكن عن جدارةٍ أو كفاءةٍ، وإنما كان بدعةً من أمانة السياسات لمكافأة أعضائها من شلة أصدقاء الوريث ابن الرئيس.. هو نفسه تم تعيينه عضواً بمجلس إدارة البنك العربى الأفريقى دون أى خبرةٍ أو كفاءةٍ متخطياً آلاف الكفاءات والخبرات الحقيقية.

5 – ولن أقول كما يقول البعضُ من أن الكثيرين من قيادات قطاع البترول لا يستحقون تجاوز الحد الأقصى، وإنما يجب أن يُحاكموا على الأكاذيب التى روّجوا لها وقبضوا ثمنها ملايين الجنيهات إلى أن صَحَوْنا على الحقيقة المُرة، وهى أننا صرنا دولةً مستوردةً للبترول والغاز، وأن أموال الشعب قد أُريقت لإنشاء شركاتٍ لا فائدة منها إلا أن تكون مأوى للمحاسيب من كبار رجال الدولة وأعضاء مجلس الشعب وأبنائهم فضلاً على أباطرة الاسترزاق لزوم تلميع وزير البترول، وقد دخل الرجل السجن بينما ظل هؤلاء أحراراً غير راضين عن تحديد دخولهم الحرام بحدٍ أقصى.

6 – ولن أقول كما يقول البعض إن قطاع الأعمال العام صار عزبةً للمحاسيب، وأن الكثير من قياداته محدودو الكفاءة ولا يستحقون حتى الحد الأدنى (أحد رؤساء الشركات القابضة عيّن سكرتيره الخاص عضواً بمجلس إدارة إحدى الشركات التابعة الكبرى مؤخراً).. وأن عَسَلَ القطاع العام يستأثر به قياداتٌ عليا شاخت فى مواقعها.. ويتقاسم العلقم آلافٌ من القيادات الوسطى والعمال الذين يُجاهدون للحفاظ على هذا المال العام وبقاء هذه الشركات فى وجه محاولاتٍ مستميتةٍ للقضاء عليها.

7 – لن أقول مثل كل ما قيل، بل إننى سأُساير بعض مبررات الرافضين لتحديد الحد الأقصى، وأؤكدُ معهم أن هذه كلها قطاعاتٌ حيويةٌ لمصر فعلاً يجبُ الحفاظُ عليها وتطويرها، وأن الكثيرين من قياداتها من المتميزين والنوابغ والفلتات فعلاً ولكن إذا ارتضينا هذا المعيار وهو الأهمية لمصر وأمنها القومى، فلماذا هذه القطاعات بالذات؟ أليست القواتُ المسلحة هى القطاع الأكثر أهمية على الإطلاق لمصر؟ وأليست الجندية هى الأكثر خطورةً على الإطلاق وتُبذلُ فيها أرواح؟ فلماذا لا يتقاضى أفرادها المتميزون والنوابغ أيضاً هذه الرواتب الفلكية التى يتقاضاها أصحاب المكاتب المكيّفة فى البنوك والبترول ورئاسات الشركات القابضة؟ وهل دور مدير فرع بنك حكومى أكثر أهميةً لمصر من دور المدرس فى مدرسةٍ ابتدائيةٍ أو الطبيب فى مستشفى حكومى أو المهندس فى شركةٍ حكوميةٍ بأكثر من مائة ضعف؟ وهل الدور الذى يقوم به السائقٌ بدون مؤهلٍ الذى يتقاضى 20 ألف جنيه شهرياً أكثرُ أهميةً لمصر من دور الشهيد أحمد زكى عميد الأمن المركزى الذى اكتشفنا بعد اغتياله أنه يسكن فى شقة غرفتين إيجار جديد فى الحى الشعبى بمدينة 6 أكتوبر؟

8 – (أوعو تنسوا.. إحنا فى حرب).. عبارةٌ كررها رئيس الجمهورية فى لقاءاته الأخيرة.. العبارة صحيحة.. والحرب قائمة.. والجبهاتُ متعددةٌ ومنها جبهة البناء.. والمصريون كُتب عليهم أن يكونوا فى رباطٍ دائمٍ إلى يوم الدين.. ويعرفون أن للحروب أخلاقياتها ورجالها.. فأما أخلاقيات الحروب فقد خبرناها ونعلم منها أن اللصوص يتوقفون عن السرقة فى أوقات الحروب.. هذا عن اللصوص.. أما مصاصو الدماء فيبدو أن شهيتهم للمال العام لا تتوقف أبداً.

9 – وللحرب أيضاً رجالها.. وهم كثيرون فى مصر لكنهم غير أولئك الذين يتصدرون المشهد.. الحرب يخوضها مقاتلون من عيّنة الدكتور عزيز صدقى أحد البنائين العظام الذى ظل يبيع فى أملاكه حتى يغطى الفارق بين راتبه كوزير صناعة ونفقاته الشهرية التى تتخطى راتبه فقد كان من أثرياء مصر إلى أن نفد كل ما يملك تقريباً.. مقاتلون مثل العالم الجليل الدكتور محمد غنيم الذى وهب عمره لإنشاء مركز الكلى بالمنصورة ورفض عروض الإقامة والثراء فى أغنى دول الخليج وخرج من مشواره ببيته بين الناس فى المنصورة (ولا يملك شقةً فى القاهرة) وسيارةٍ عاديةٍ يقودها بنفسه.. مقاتلون مثل الجراح العالمى الدكتور مجدى يعقوب الذى نَذَر علمه لإنشاء مركزٍ عالمىٍ فى أسوان لعلاج قلوب المصريين.. مقاتلون مثل المثقف الفنان محمود مرسى الذى ترك عمله المميز فى هيئة الإذاعة البريطانية مع بدء العدوان الثلاثى على مصر من تلقاء نفسه وظل بلا عملٍ إلى أن وجد وظيفة بسيطةً فى الإذاعة المصرية.. مقاتلون مثل الدكتور مهندس يوسف إسماعيل (وكان ضابطاً بالمناسبة) الذى قاد ملحمة إنشاء مجمع مصر للألومنيوم فى منطقةٍ قاحلةٍ تسمى صحراء الهوّ بنجع حمادى ورحل عن دنيانا دون أن يتملّك قصراً فى إسبانيا ولا حتى فى الساحل الشمالى، فقد كانت مصر فى حالة حربٍ لا موسم تصييف.. مصر فى حاجةٍ إلى مقاتلين كهؤلاء الذين لم يمنّ أىٌ منهم عليها كما يمنّ عليها أصحاب الحد الأقصى الآن، مع أنه لا وجه للمقارنة.

10 - قانون الحد الأقصى يُحدث خدشاً فى حائط الظلم الفاحش الذى تراكم فى العشرين عاماً الأخيرة، ولن ننتصر فى حربنا ما لم نهدم هذا الحائط تماماً.. فالله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة.. ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة.

11 – مصر فى حالة حرب.. والحرب يخوضها المقاتلون.. لا السماسرة.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة