ثمة مشاهد لن تُمحى من ذاكرتى عن رمضان قبل نحو ربع قرن بقريتى النائية المهمشة بالصعيد، لأنه كان شهراً فريداً تبلورت ملامحه عبر تراكم خبرات شاركت بصياغتها أجيال وثقافات متراكمة، وإن كانت للأسف تبددت ضمن خسائرنا فى المواجهة الحضارية مع «ثقافة الجلافة»، وشيوع رؤية كئيبة لمظاهر التدين حملها الجراد لنسف السمات الجميلة المتميزة بحياة المصريين، وإحالتهم لمسوخ يتمسحون فى «ثقافة دخيلة» صلتها بالخالق مجرد طقوس شكلية.
لعب الإخوان والتيارات السلفية دور العرّاب لتحويل رمضان لمجرد «سلعة»، وموسم للهوس بكل أشكاله، الدينى والاجتماعى والاقتصادى والإعلامى، فضلاً عن توابعه من سلوكيات بغيضة كالنفاق والتبذير الاستعراضى وفحش الخصومة، وغيرها.
دعونا نعترف بأن المصريين خلال نهار رمضان يصبحون «كائناتٍ عدوانية» بشكل يستعصى على الفهم ويستحق دراسة ميدانية للوقوف على أسباب تعايشنا مع هذه التناقضات، متمثلة بتلك القدرة العجيبة على الجمع بين المعنى الأسمى للصوم وهو الزهد، والسلوك الاجتماعى المنفلت الذى يتجاوز المنطق، ويتمدد بكل الطبقات.
كان رمضان الأيام الخوالى بوابة للبهجة وحفاوة البسطاء بالحياة، ورأيت كيف كان يتربص الفقراء كالأغنياء والمسيحيون كالمسلمين بنسماته، ليتباروا بالتسامح، ويجتهدوا لاختلاس الفرحة من أنياب الفقر وقلة الحيلة.
لن نقف عند حدود الانطباعات، لكن سنسوق خلاصة دراسة أعدها مركز البحوث الاجتماعية والجنائية، خلصت إلى أن المصريين ينفقون على الطعام سنويا 200 مليار جنيه، يستأثر شهر رمضان وحده بنحو %15 منها بما يساوى 30 مليار جنيه بمعدل مليار جنيه يومياً، أما المثير للاشمئزاز فهو ما أكدته الدراسة بأن %60 من الطعام بالموائد المصرية خلال رمضان يلقى بالقمامة، فأى سفه هذا؟
أياد غير مجهولة اغتالت «رمضان المصرى»، الذى كان يُبهر العرب والعجم، ويحسدون من يسعده زمانه منهم لحضور أجوائه القاهرية، قبل أن يتحول لمزاد لتحريم مظاهر الخصوصية المصرية كالموالد، وزيارة أضرحة أولياء الله الصاحين، كما تسعى الأيادى ذاتها بخبث لتجريف وعى البسطاء باعتبار هذه الممارسات «شرك بالله»، لنسف المفردات التى تُشكّل الوعى المصرى بالإسلام فى طبعته السمحة التى ينبغى استعادتها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة