أصبح هذا المصطلح الملتبس الذى اختزله البعض فى التنظيمات الحركية، التى تصدت وفقا لفهمها لتمكين ما يسمى المشروع الإسلامى، المصطلح الذى هو الآخر أصبح بحاجة لإعادة التحرير، ضمن مصطلحات عديدة ملتبسة ومسكونة بالأسئلة، هل نحن بحاجة لإعادة التعريف بماهية التيار الإسلامى، بعيدا عن حصره فى مجموعات الإسلام السياسى، بتنويعاته الثلاثة السلفية والإخوانية والجهادية أو التكفيرية بحسب الظهور التاريخى، هل التيار الإسلامى هو تلك المجموعات التى فشلت فى أن تتحرك بالمشروع الإسلامى كمشروع قيمى بالأساس، جعل المجتمع أكثر احتقانا وتنكرا لحقائق الدين ولم تنجح حتى تلك المجموعات فى تحسين صورة الإسلام أو تمكينه قيميا فى الواقع، بل ساهمت فى الإساءة إليه فى الداخل والخارج بالشكل الذى صعب مهمة أى فريق يحاول التصدى لهذا الفشل الكارثى، التى تورطت فيه تلك المجموعات، هل هؤلاء هم التيار الإسلامى المنحاز للقيم والأخلاق الذى يتقمصها سجية وخلقا، ويقدم من نفسه القدوة فى الأفكار والمعارف والسلوك؟ هل يصح اختزال التيار الإسلامى فى تلك الكيانات، أتصور أن التيار الإسلامى الحقيقى هو هذه الكوكبة من العلماء والمصلحين، الذين رصدوا مبكرا نزول السلم الحضارى للإسلام، وتأثره بالأعراف القبلية والعائلية، والأطماع البشرية والإحن بين القبائل والأسر، التى ظلت تتصارع على الحكم، وتطوع النص الدينى قرآنا وسنة لخدمة وجود طويل ومستبد فى الحكم، فرق الأمم إلى فرق ومذاهب وأذهب وحدتها الشعورية قبل أن يذهب وحدتها السياسية، وإن رفعت رايات الخلافة وظل الله فى الأرض، ولم يكن ظلهم سوى ظل الظلم والجهالة والمطامع البشرية والابتعاد عن حقائق الدين، يوم حاولوا إبرام هذا التحالف الشيطانى بين السيف وما ادعوه أنه أحكام القرآن، وما كان للسيف والقرآن أن يجتمعا كما يقول على الوردى «إن السيف والقرآن متناقضان، فإن اجتمعا فلابد أن يتخلى أحدهما عن طبيعته، فإما أن يتخلى القرآن عن ثورته، وإما أن يتخلى السيف عن قسوته»، فطبيعة كل منهما غير الآخر، للسيف رجال ومجال، وللقرآن رجال ومجال، وكل محاولة فى تاريخنا جرت لجمعهما معا انتهت تلك النهاية التى نرى واقعها على حياتنا فى كل المناحى، رصد العديد من المصلحين هذا الانحراف انحراف السلطان عن القرآن، رغم الادعاء بتحكيمه، وبرز علماء أفذاذ لم يتصالحوا مع الظلم أو الفساد، ولم يحرفوا نصوص الدين لصالح حاكم أو قبيلة، حفظ التاريخ أسماءهم، وإسهاماتهم، كأحمد بن حنبل، والعز بن عبدالسلام، وأبوحنيفة وغيرهم، وكان لاجتهادات الغزالى صاحب إحياء علوم الدين، وغيره من رواد الإصلاح محاولات لم تنقطع لتجديد الدين فى العقول والقلوب، وامتد عطاء هؤلاء مصداقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قال «إن الله يرسل لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها».
ولم تقتصر جهود الإصلاح على هؤلاء العلماء، بل امتدت لمدارس فكرية كان منها مدرسة المقاصد للشاطبى، الذى أدرك أن العبرة بالمآلات، وسطر ذلك فى الموافقات وغيرها من المؤلفات التى حاولت أن تعالج الخلل فى فهم الدين ومقاصده، ورغم ذلك ظلت مطية الدين مبسوطة للصالح والطالح، أفرادا وجماعات، وظل هناك من العلماء والدعاة من توفرت لديهم الرؤية الثاقبة، فلم يتورطوا فى أن يختزلوا الدين فى تنظيمات حركية، انحرفت بالسلوك، وتحت مطارق السياسة والحكم إلى أهداف أخرى، ولم تنجح فى تحقيق مراد الله من خلقه، بل أصروا على أن رسالة هذا الدين إصلاح نفوس الحاكم والمحكوم، وتبقى تلك مهمة أى كيان حركى يدعى الصلة بهذا المنهج، فإصلاح النفوس وتقويمها هما الصناعة الثقيلة التى لا يشتغل بها إلا أصحاب النفوس العظيمة، ممن تجردت نفوسهم عن الدنايا وأطماع الدنيا، التيار الإسلامى هو التيار الذى يقوده الأزهر المستقل ماليا وفنيا، الذى يستعيد لياقة علمية وروحية، تنتج خطابا قويا متماسكا، وتخرج دعاة يملأون العين والقلب، يعيدون للأذهان صورة أسلافهم من أعلام الأزهر، كالشيخ المراغى، وأبوالفضل الجيزاوى، والخضر حسين، ومحمد عبدالله دراز، ومحمد عبده، وغيرهم من رواد الإصلاح الدينى، إن التيار الإسلامى الذى يقوده الأزهر والدعاة المستقلون عن كل حزب وجماعة، ومعهم ملايين المؤمنين بهذا الدين شعورا فى الضمير وسلوكا متحققا بمكارم الأخلاق، بوسطية تجمع التصوف الصحيح الذى يقدر ويحب آل البيت، ويلتزم صحيح القرآن والسنة، هم التيار الغالب فى هذه الأمة، من يعتقدون أن الإسلام هوية حضارية لهذا البلد، لن يستطيع أى شخص أو فصيل تشويهها، وإن ملأ الأرض ضجيجا وادعاء بأنه يملك التصور الصحيح لهذا الدين، الذى هو فى حقيقته خير دائم وسلام ومحبة ورفاهية وسعادة ووحدة، وقبل ذلك وبعده رحمة للعالمين.. التيار الإسلامى من يعتمد الرحمة قيمة مركزية، «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». من يعتقد أن الحرية مقدمة على التوحيد، فشرط الإسلام الحرية «لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى». إن التيار الإسلامى الراشد هو من يصون وحدة المجتمع، ولا يسمح بأن يتعالى الطائع على العاصى، بل يرفق به ويدعو له ويقدم طاعته لله وهو وجل خائف ألا تقبل، «والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون»، لا من يبتهجون بالمعصية فى صفوف إخوانهم المخالفين لهم فى الرأى، من لم يستمعوا لوعيد الله «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لاتعلمون». إن رسول الله هو من علمنا بأننا لن نسع الناس بأموالنا، ولكن نسعهم بأخلاقنا، فهل وسعت هذه المجموعات الناس أم تعالت عليهم.
إننا يجب أن نستعيد تحرير هذا المصطلح، التيار الإسلامى أوسع بكثير من الإخوان والسلفيين والجهاديين وغيرهم من شذاذ الآفاق، ويجب أن يتصدى العقلاء على امتداد الوطن الواسع للدفاع عن حقائقه الناصعة بقيادات جديدة، وعناوين جديدة، أصدق تعبيرا عنه من هؤلاء المدعين، وأتصور أن هذا من فروض الأوقات، وخطاب لضمائر العقلاء من علمائنا، ودعاتنا، الذين يجب أن يستردوا هذا المصطلح المغدور.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة