يأتى علينا العام تلو العام، وتطل علينا الذكرى، ذكرى الأول من مايو، الذى يصادف ذكرى إضراب نظمته مجموعة من العمال فى ولاية شيكاغو الأمريكية، للمطالبة بتحديد ساعات العمل اليومى بثمانى ساعات، كان هذا فى الفترة من 1 مايو إلى 4 مايو من عام 1868، واستمر الإضراب بنجاح فى وجود عمدة الولاية، حيث سبق الحصول على ترخيص بالإضراب وفجأة انسحب العمدة من المكان، بينما داهمت الشرطة مكان الإضراب، ووسط الفوضى والاشتباكات انفجرت قنبلة، وتم القبض على عدد من قيادات العمال الذين قدموا إلى المحكمة التى قضت بإعدام 7 منهم، خفف الحكم بالمؤبد على البعض، بينما انتحر عامل ونفذ حكم الإعدام شنقا فى أربعة، بعدما تمت تهيئة الرأى العام بحملة صحفية نهضت بها الصحف المملوكة فى معظمها لأصحاب المصانع ورؤوس الأموال، وبعد أحد عشر عاما ظهرت مفاجأة، عندما اعترف رئيس شرطة الولاية قبل أن يموت بأن الشرطة هى من وضعت القنبلة فى مكان الإضراب، فتمت إعادة المحاكمة وتبرئة العمال، واعتبر من وقتها يوم الأول من مايو عيداً للعمال تحتفل به وتعتبره عطلة رسمية أكثر من 90 دولة حول العالم، تخليدا لذكرى هؤلاء العمال الذين دافعوا عن حقوقهم، وكرسوا هذا الحق الذى مر عبر تشريعات وقوانين ليصبح ثابتا من ثوابت العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وتغير الواقع فى أمريكا وغيرها من الدول الرأسمالية على خلفية هذا النضال الذى لم يتوقف، والذى كان عماده اتحادات وروابط نقابية فرضت منطقها، واستطاعت التفاوض مع أصحاب العمل، وإنجاز اتفاقات مرضية، ورغم الدعاية حول الرأسمالية وأنها تعصف بحقوق العمال، فإن العامل الغربى تمتع بحقوق لا تنكر فى التعليم والرعاية الصحية والسكن، وأصبح قادرا على أن يحيا ويصعد فى السلم الاجتماعى، بينما تعثرت مسيرة العمال فى مصر فى اتجاه حقوقهم وطالت محنتهم، فالبرغم من الطفرة التى عكستها سياسات جمال عبدالناصر وانحيازاته الواضحة لتلك الطبقات المهمشة من العمال والفلاحين، والتى تبدت فى جملة قرارات وسياسات، ساهمت فى مزيد من التمكين والدعم لتلك الطبقات، فإن السادات بانفتاح «السداح مداح» هيأ الأجواء لهدم الصناعة المصرية، وقلاع القطاع العام فى النشاط الزراعى والصناعى، بالشكل الذى بدت فيه سياسات مبارك المتعلقة بالخصخصة أمرا مقبولا لدى الكثيرين، ومع موجة جديدة من سيطرة الرأسمالية المصرية وتحالفها مع السلطة، فى آخر عقد من حكم مبارك انتهت تماما حقوق العمال، وأصبحوا أكثر الفئات تضررا، مما سمى بالإصلاح الاقتصادى الذى لم تسقط ثمراته إلا فى أيدى الطبقة الرأسمالية الضيقة، بالشكل الذى جعل الفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء يزدادون غنى، كان المشهد المتكرر فى كل احتفال بعيد العمال عندما يجمع الرئيس شهود الزور فى اتحاد عمال مصر يهللون له مطالبين بـ«المنحة يا ريس»، فيبتسم تلك الابتسامة اللزجة، ثم يعلن المنحة التى كانت تتراوح بين 10 و%15 من الأجر الأساسى وسط تهليل هؤلاء، بينما يبتلع عمال مصر الحسرة، ويلوذون بالصمت الذى يخفى الغضب المتراكم فى الصدور، والخوف الذى تحرروا منه فى الأخير، لتنطلق موجات الغضب العمالى فى كل مصر، فينظمون مئات الإضرابات والوقفات الاحتجاجية التى هيأت الأجواء لظهور حركات سياسية بنت على هذا الغضب، مثل حركة كفاية التى رفعت سقف المطالب الشعبية، وانتقلت من حالة المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بالتغيير الشامل، وانطلقت موجات ثورة 25 يناير التى حملت فى قلبها مطالب العمال والفلاحين والطبقات المهمشة، برفعها شعارات العدالة الاجتماعية والعيش والحرية، لكن توجهات أول نظام حاكم بعد ثورة 25 يناير كانت بعكس ما أملته تلك الطبقات، حيث تصالح الإخوان مع رجال أعمال نظام مبارك، مؤكدين أنهم لا يعادون النيوليبرالية التى عصفت بحقوق العمال، محاولين بناء شبكاتهم الجديدة على حساب تلك الطبقات، مما أطلق موجات جديدة من الاحتجاجات فاقت الاحتجاجات على عهد مبارك والسادات، وفى أعقاب انهيار حكم الإخوان تصاعدت المطالب من بعض أروقة الدولة وبعض النخب بضرورة توقف الوقفات المطلبية، التى سميت بمطالب فئوية، وهى تسمية مراوغة بديلا عن تسميتها بالمطالب الشعبية، فالشعب فى النهاية هو مجموعة من الفئات، وبالرغم من أن الدستور الجديد تضمن مواد تعزز الشعور بتوجهات إيجابية بحق العمال والفلاحين، فإن السياسات الحكومية تبقى هى الترجمة الحقيقية لتلك النصوص.
إن إصلاح أحوال العمال والفلاحين، وعندما نتحدث عن العمال فنحن نتحدث عن العمالة المنتظمة وغير المنتظمة أو الموسمية، وهى اكثر الفئات معاناة فى الحقيقة فنحن نتحدث عن ضرورة عودة الدولة لرعاية هؤلاء، وأتصور أن الرعاية تبدأ بإحصاء واضح للعمالة المدربة وغير المدربة، والتخطيط القطاعى من جديد للصناعة والزراعة، وتوفير مراكز تدريب يتولى إدارتها مصريون ممن عاشوا خارج مصر، وكانوا جزءا من تجارب تدريب وتأهيل فى الدول المميزة فى تلك المجالات، نحن نريد طاقات لم تفقد الأمل بعد ولديه حيوية تلك البلاد التى عاشت فيها. إن قضية التدريب هى قضية أمن قومى، حيث أتصور أن العمالة المدربة التى هجرت إلى الأستانة من عشرات السنين لم تعد بعد، لابد من استعادة شيوخ المهنة، ومعاهد تتولى تأهيل من يعمل فى أى مهنة ولا يمارسها سوى بترخيص وإجازة من تلك المعاهد، التى تجمع بين العلم والخبرة، ومدونة شرف لكل مهنة يتقيد بها أعضاؤها أرباب تلك المهن، لدينا بعض المؤسسات التدريبية التى مازالت تحتفظ بخبرات تؤهلها للمساهمة فى تلك المهمة، متى توفرت أجواء من النزاهة والاستقامة والحرص على تطبيق القانون على الفاسد أو المخالف، لابد من إعادة النظر فى برامج التعاون الأوروبى فى هذا المجال، والتى تتواتر المعلومات حول الفساد فى إدارتها.
إن الاحتفال الحقيقى بالعامل هو فى توفير ظروف حياة ملائمة وآدمية له ولأسرته، من خلال دخل عادل يتناسب مع الإنتاج ونصيب من الربح، وشروط عمل تتحقق له فيها مقتضيات الحياة الكريمة، التى تمكنه من العمل والإنتاج، والعامل المصرى إذا تهيأت له تلك الظروف فاق اليابانى والألمانى عملا وإنتاجا، لن نحتفل بعيد العمال إلا عندما نستعيد الإيمان بقيمة العمل والإنتاج، بديلا عن قيم الفهلوة والكسب السريع وغيرهما من القيم الضارة التى تسللت لنا مع موجات الانفتاح، لتعود أغنياتنا كما كانت دور يا موتور، محلاها الإيد الشغالة، بالإيمان والاتحاد والعمل، عمال مصر كل عام وأنتم بخير، مصر ما زالت بحاجة لسواعدكم وجهدكم فى معركة الوجود.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة