ليست السياسة بالأمر الهين، ولا هى مجرد الوجاهة الاجتماعية التى يحصل عليها نائب فى البرلمان، أو شخصية حزبية مرموقة، أو حتى رئيس لدولة مهما بلغ حجمها «كبُرت أو صغُرت»، فهناك جملة أمريكى شهير تقول «إن من يشتغل بالعمل العام، يعرض نفسه للمهانة»، والمقصود هنا هو أن السياسيين وأصحاب الشهرة يتعرضون للقيل والقال نتيجة وضعهم الاجتماعى الذى سعوا إليه، وعليهم أن يتحملوا ذلك برحابة صدر وحكمة مطلوبة، وإلا ما ذهبوا لتصدر المشهد قَط. كما وَجب عليهم أن يتحملوا تبعات وأحمال ما أقبلوا عليه، ولعل السيسى بوصفه رئيس جمهورية مرتقب نظرا لحظوظه العالية أمام منافسه صباحى ، مقبلا على أكبر تحدٍ لم يجُل بخاطره يوما منذ اتخذ قرار الالتحاق بالمدرسة الثانوية الجوية العسكرية وحتى صار وزيرا للدفاع، وقائدا عاما للقوات المسلحة المصرية، والتحدى هنا ليس تحمل مسؤولية رئاسة دولة، ولا أن هذه الدولة هى مصر بأثقالها الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وإنما هى مصر فى هذه المرحلة الراهنة حيث تجتمع فيها كل الأزمات التى تسببت فيها نظم الحكم المختلفة، منذ ما يزيد على أربعين عاما، إضافة إلى عدم الاستقرار السياسى داخليا وخارجي، زائد الوقوف لحكم وسياسة شعب عرف لذة الجرأة، واستطعم حلاوة القدرة على التغيير، يحيط بذلك كله مشاكل الإقليم العربى ككل والذى صار ينظر لمصر من جديد بوصفها الأم الحامية لا مجرد الشقيقة الكبرى الناصحة، فالشمال الأفريقى يتوجس خيفة مما يحدث داخل ليبيا بعد انهيار الدولة، لا مجرد النظام، ويعى أن تصدير نفس المشهد وارد بقوة ومن ناحية أخرى يأتى المأزق السورى الذى خلقته الولايات المتحدة، وغرقت هى فيه حتى أذنيها، وكلما تحركت زادته إفسادا، وأضافت لورطاتها ورطة جديدة، ولعل هذا المشهد تحديدا يحظى باهتمام خاص لدى السيسى الذى وصفه بـ«الأفغنة» نسبة إلى مشابهته للمشهد الأفغانى الشهير، والذى جر ويلات على وسط آسيا وعلى الدول التى شارك أبناؤها فى المشهد ذاته وحتى اللحظة، ولكن يبدو أن المشهد السورى سيشهد اختلافا نوعيا فى الفترة القادمة، حيث بات من المؤكد أن واشنطن التى دعمت المجموعات المسلحة السورية فى مواجهة القوات النظامية، قد أدركت هى والرياض أنهم يدعمون تنظيمات تكفيرية تنتمى أيديولوچيا لتنظيم القاعدة الإرهابى مما يضع شمال المملكة فى مأزق التفتت، والمعاناة من الإرهاب، وهنا خرجت الرياض ببيانها الشهير حول حظر أغلب هذه الجماعات، وأنه أخطر عليها من النظام الأسدى الذى يتعامل كلاهما بمنطق ثأرى مع الآخر.
يكمن التغيير الجديد ليس فقط فى مجرد تخلى واشنطن والرياض عن الدعم المالى واللوچيستى للمجموعات التكفيرية المسلحة، ولكن فى استبدال هذا الظهير بآخر فى لباس علمانى «حركة حزم»، التى تمتلك سمات عديدة تجعل منها مرشحاً جيداً للحصول على تلك المساعدات مثل صواريخ «تاو» التى حصلت عليها بالفعل من أمريكا، حركة كما يبدو أن لها توجهات علمانية، كما أنها منظمة جيداً من وجهة النظر العسكرية، ولديها مخزون كبير من الأسلحة الثقيلة، وتعمل عبر منطقة هامة فى سوريا، ولديها سجل قتالى حافل فى الدخول فى معارك ضد القوات النظامية، وباختصار، يبدو أن الجماعة تقدم إجابة جزئية على الأقل لمسائل عالقة منذ فترة طويلة بشأن حركات المعارضة المسلحة، والتى ترى أطراف عدة أنه ينبغى على واشنطن تسليحها.
«ليس من الحكمة على الإطلاق الحكم على حركة أو جماعة مسلحة دون توافر معلومات كافية عنها، حتى يتم تقرير دعمها من عدمه، خاصة أنها ليست صنيعة أمريكية بالأساس، ولأن هذا لا يمنع أن يتم احتواؤها أمريكيا» الجملة السابقة هى أساس التفكير الاستخباراتى الأمريكى فى استقطاب وترويض الحركات المسلحة لصالحها، وهو أمر معروف لدى كافة المتابعين عن كثب، ولهذا ظن الكاتب أن القارئ العربى أولى بالمعرفة إن لم يكن سابقا لها، عسى أن يكون هذا الاجتهاد مفيدا فى مرحلة التحليل السياسى القادمة، أو محاولات استشراف السيناريوهات المستقبلية للأزمة السورية، تشكلت «حركة حزم» فى يناير 2014 من خلال اندماج اثنين وعشرين وحدة ثورية منفصلة. ووفقاً لوثائقها التأسيسية، فإنها «منظمة سياسية ثورية لها جناح عسكرى.. تعمل على إسقاط النظام فى سوريا وتسعى لاستعادة الحرية والكرامة للشعب السورى». وهناك محتوى إسلامى محدود جداً فى هذه الوثائق، أو المنشورات المختلفة للجماعة على الإنترنت. وبشكل عام، يبدو أن الحركة أكثر اهتماماً بحربها ضد النظام من اهتمامها بالاقتتال الداخلى الذى عانت منه المعارضة السياسية والعسكرية منذ فترة طويلة، والقيادة العسكرية للحركة هى عبارة عن مزيج من ضباط جيش ومدنيين. ويقال إن قائدها العسكرى هو الملازم عبداللطيف عودة (المعروف كذلك باسم «أبوزيد»)، بينما رئيس مكتبها السياسى هو حمزة الشمالى «أبوهاشم». ويبدو أن اثنين على الأقل من قادتها الثلاثة الذين تم ذكرهم يتمتعون بخبرة عسكرية. فقد ترأس أبوزيد سابقاً «كتائب فاروق الشمال»، إحدى التشكيلات القتالية التى اندمجت لتشكل «حركة حزم»، ويبدو أن الجماعة منظمة جيداً من الناحية العسكرية، حيث لها قطاعان إقليميان محددان : القطاع الشمالى ويغطى محافظات حلب وإدلب وحماة، فى حين أن القطاع الجنوبى مسؤول عن محافظات حمص، وريف دمشق، ومدينة دمشق ومحافظة درعا. ويشغل الملازم مرشد الخالد «أبوالمعتصم» منصب قائد القطاع الشمالى، بينما قائد القطاع الجنوبى هو محمد الضحيك «أبوحاتم». ويقال إن كلاً منهما يضع خططاً فى المنطقة الخاضعة لسيطرته ويتابع على الأرجح أمور القادة الفرعيين الذين يديرون محافظات معينة. ومنذ إنشائها حتى الآن، حققت الحركة سجلاً جيداً فى المعارك التى وقعت فى محافظات حلب وإدلب وحماة وحمص - التى هى من بين أهم مناطق القتال فى البلاد. هكذا يخرج البيت الأبيض من وصمة دعم تنظيمات إرهابية ووضع حرج أمام البنتاجون الذى يدفع الفاتورة النهائية، كذلك أمام دائرة الرأى العام والإعلام الذى لن يرحم ساكنى البيت الأبيض.. على صعيد آخر يحاول البيت الأبيض أن يعيد صياغة علاقته بالرياض، والتى يشوبها الكثير من التوتر بسبب نصائحه السابقة، والخاصة بدعم الإسلاميين المسلحين فى سوريا، إضافة إلى دفء العلاقة الواضح بين واشنطن وطهران التى تناصب الرياض عداء قديما، أخيراً وفى الوقت الحالى، يحقق نظام الأسد تقدماً على أرض المعركة، بينما تملك قوات الجماعات الإسلامية المتطرفة اليد العليا فى الكثير من المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة، وهذا الوضع بالقطع لا يسهم فى تحقيق ما ترغب فيه واشنطن، كما أن القوى المعتدلة والعلمانية المؤثرة لها أهمية فى تحقيق نتائج فعلية - وبشكل مثالى، يمكنها المساعدة فى هزيمة النظام، والسيطرة على الفصائل الإسلامية المتطرفة أو قل تسليم رؤوس قيادييها ومن ثم خلق حالة أقرب إلى الاستقرار فى سوريا فى مرحلة ما بعد الأسد - إن سقط - بالشكل الذى لا يضر بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها. ويمكن أن يسهم التطوير السريع للقدرات القتالية لقوات مثل «حركة حزم» فى تحقيق هذه الغاية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة