فى أحد أيام 2007 كنتُ على موعدٍ للقاء الدكتور عزيز صدقى وزير صناعة عبد الناصر وأحد البنّائين العظام فى تاريخ مصر.. ما أن دخلتُ إلى مكتبه فى الزمالك حتى انفجر غاضباً على غير عادته.. كان مُمسكاً بأحد الجرائد وقد قرأ للتوْ خبراً عن الفساد الفاجر لأحد وزراء الإسكان السابقين.. ودار بيننا حديثٌ طويل لا مجال لسرد تفاصيله الآن، ولكننى أذكر أنه بعد أن هدأت ثورتُه قال فيما قال (يا بُنىّ.. لا تدع كل حديثنا الثائر والغاضب عن هذا الفساد الفاجر يصيبك باليأس أو الإحباط.. بل تفاءل.. فما أسهل أن تنهض مصر مرةً أخرى وبأسرع مما تتخيل.. فمصر بلدٌ فرعونى.. الإصلاح فيه من أعلى أسهل من الإصلاح من أسفل.. والإفساد فيه من أعلى أسهل أيضاً من الإفساد من أسفل.. هل تذكرُ كيف كان حال مصر عام 1952؟)، فقلتُ له (كانت الغالبية تعانى الثالوث الشهير: الفقر والجهل والمرض.. فضلاً عن احتلال جاثم وقوى سياسية ينقسم ولاءُ معظمها بين قصر الملك وسفارة المحتل).. فسألنى (وهل تذكر كيف أصبح حال مصر سنة 1962 أى بعد عشر سنوات فقط من هذا الوضع البائس؟)، فأجبته (صرنا نصنع صواريخ) فأجابنى وقد أضاء وجهه شعورٌ بالفخر والرضا (ليس الصواريخ فقط ولكننا كنا قد ملأنا مصر بالمدارس والمصانع والوحدات الصحية وقصور الثقافة والساحات الشعبية، وأصبحنا الدولة القائدة لدول عدم الانحياز والنموذج المحتذى لحركات التحرر فى العالم.. كل هذه القفزة الواسعة السريعة للأمام لمجرد أن الله قيّض لمصر حاكماً مخلصاً لها عارفاً قدْرها أفنى حياته من أجل شعبها فأحبّه شعبُها وحقق معه المعجزات). كان عزيز صدقى يقول ذلك ووراءه تجربةٌ عظيمةٌ تؤكد صحة ما يقول.
أنا متفائلٌ مثلما تعلمت من الدكتور عزيز صدقى والدكتور عبد الوهاب المسيرى والفاجومى أحمد فؤاد نجم وغيرهم من العمالقة الذين وثقوا فى قدرة هذا الشعب على تحقيق المستحيل، وأثق فى صحة المعادلة التى أشار إليها أبو الصناعة للقفز من حاضر أزمة إلى مستقبل إنجاز.. والتاريخ البعيد والقريب يؤكد صحة هذه القاعدة.. قائدٌ مخلصٌ لشعبه + شعبٌ دؤوب يثق فى قائده = طفرة وإنجازاً.. لدينا الشعب الدؤوب الصابر ولم يتبقَ إلا حسن اختيار القائد المخلص المتجرد اليوم وغداً لكى يتحقق الشطر الثانى من المعادلة: الطفرة والإنجاز.
تفاءلوا بأننا نستطيع (كما استطعنا من قبل) وثقوا فى قدرة الله الذى يقول (لا تدرى لعل الله يُحدثُ بعد ذلك أمرا).. بل إننى أرى بوضوحٍ أن الله يُحدثُ ذلك الأمر فعلاً منذ ثلاث سنوات.. وأن يد الله الحانية تحفظ مصر وتغسل أدرانها بسرعةٍ وتخط لها طريقاً للأمام.. أتفهم اكتئاب وتشاؤم البعض لأننا نعيش فى قلب الأحداث.. لكن أى إطلالةٍ منصفةٍ من خارج المشهد تدعو للتفاؤل.. فقد تخلصنا من كوابيس ثقيلةٍ بأقل تكلفة.. ومهما بلغت تكلفة وآلام نزع الشوكة السامة من جسد الوطن، تظل أقل من تكلفة وآلام بقائها.
المعادلةُ مُجرّبةٌ وصالحة فى كل زمانٍ ومكان.. تذكروا كيف كانت مكة، بل شبه الجزيرة العربية ببدوها الرحل الجَهَلة الجاهليين، وكيف أصبحت قبل أقل من عِقدين من بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام؟. سيقول قائلٌ إن هذا رسولٌ يصنع الله به وله المعجزات.. حسناً، فما قولكم فى التجربتين العُمريتين؟ كيف كان حالُ الأمة قبل كلٍ منهما وكيف أصبحت؟. فى التجربتين سعدت الأمة واغتنت أما القائد فكان حظه فى الدنيا أقل من شعبه.. يأكل أقل مما يأكلون ويلبس أقل مما يلبسون ويعيش على الكفاف.. قادة الإعجاز والإنجاز هم بشرٌ مثلنا لكنهم يخسرون دنياهم من أجل آخرتهم ودنيا شعوبهم.
هذه القاعدة لا تصدق على مستوى الدول فقط وإنما تصدق على أى كيانٍ اقتصادى أو إدارى أو اجتماعى.. طلعت حرب نموذج.. موظفٌ عادى استثمر حماس المصريين فى أعقاب ثورة 1919 لإقامة قلعةٍ اقتصادية رائدة.
هل نحن أقل من غيرنا؟ لماذا لا نتفاءل بأن يتكرر عندنا ما حدث مع غيرنا من طفراتٍ نُسميها معجزات.. المعجزة الماليزية والمعجزة السنغافورية والمعجزة الإندونيسية والمعجزة التايلاندية والمعجزة البرازيلية والمعجزة الفيتنامية ومعجزة دبى.. حتى وصلنا للمعجزة الرواندية والمعجزة البوركينافاسية.. ومعظم هذه النماذج لدولٍ مرّت بمآسٍ وكوارث وحروبٍ عافانا الله منها، وبدأت معجزتها من حالةٍ أسوأ مما نحن فيه الآن.. وليس فيها شعوبٌ أرقى ولا أذكى من شعبنا.. لا يوجد شعبٌ أفضل من شعب ولكن يوجد قائدٌ أفضل وأكثر إخلاصاً من آخر.
سنستطيع بإذن الله كما استطاع غيرُنا، وياليت المصريين جميعاً يقرأون كتاب (الفيل والتنين: صعود الهند والصين) تأليف روبين ميريديث، وترجمة شوقى جلال، والذى صدر ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، وأستعير هنا سطوراً من تلخيص العزيز إبراهيم عيسى:
(فى 1991 كانت الهند أمةً فيها مائة مِلَّة ويتحدث شعبها أكثر من ثلاثين لغة مختلفة، وكانت مفلسةً تماماً، وبها 330 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، وأدى التضخم الذى بلغ 17 فى المائة إلى تآكل الدخول المنخفضة، وانهارت الموارد المالية للحكومة، وأضحت الهند أمام كارثةٍ محققة. أوقفت المصارف الاقراض للهند، كما ألغت بطاقة الائتمان لعدم السداد، وهبط احتياطى الصرف الأجنبى إلى مستوياتٍ تكاد لا تفى إلا بتكلفة أسبوعين من واردات النفط. وطارت حمولةُ طائرةٍ بأكملها من احتياطى الذهب الهندى إلى لندن مقابل ضمان قروضٍ قصيرة الأجل من الغرب.
فى أقل من عشر سنواتٍ من نقطة البداية الكارثية استخدمت الهند أدوات النهوض، فماذا حدث؟. نما الاقتصاد بأسرع مما كان على مدى عقود، وبدأت الشركات تشغيل العاطلين، وانخفض حجم التضخم من أكثر من عشرة إلى ما دون العشرة بحيث يمكن التحكم فيه، وانخفض الدَّيْن، كما تم استرداد احتياطى الصرف الأجنبى النفيس، وتجنبت الهند الأزمة، وظلت الأضواء مشتعلةً لم تنطفئ فى أعظم بلاد الدنيا فى هندسة الكمبيوتر وأكبر عددٍ من مهندسى البرمجيات فى العالم).
هى نفس المعادلة المجرّبة للطفرة والإنجاز.. رؤية قيادةٍ ودأَب شعب.
فاللهم إنى أسألك اليوم، وملايين المصريين يتوجهون لمراكز الاقتراع، أن تُلهمهم رُشدهم فيُحسنوا اختيار قائدهم.. اللهم إنى أسألك بحق عبادك وإمائك من المصريين الذين يبيتون على الطوى ولا يسألون الناس إلحافاً.. أولئك الذين تعلمهم ولا نعلمهم.. يا رب.. وأسألك بحق الفلاحات الشريفات القادمات فجر كل يومٍ من ضواحى القاهرة، حاملاتٍ ما أنتجنه من جبنٍ وبيضٍ لترجعن بجنيهاتٍ قليلةٍ تتعفف بها أسرهن.. وأسألك بحق الرجال المنكسرين فى (سوق الرجالة) فى انتظار (شيلة رملة) تهُدّ الحيل فى قيظ الصيف مقابل جنيهاتٍ قليلةٍ ولكنها حلال، ولا يخطر ببالهم (مجرد خاطرٍ) أن يلوثوا جيوبهم بمالٍ حرام.
وأسألك يا رب بحق أنك أنت العليم الذى يعلم أن هذا الشعب فى أصله وغالبيته طيبٌ وإن قَسَت قلوب بعض أبنائه.. شريفٌ وإن علا صوتُ بعض فاسديه.. أسألك أن تلطف بمصر وتحفظها وتُعزّها.. ففى عزّها عزُ العرب أجمعين.
اللهم خِر لمصر واختر لها قائداً يُدخل مصر جنة الأرض وتُدخله مصر جنة السماء.. قائداً يخسر فينا دنياه ويكسب آخرته.. قائداً تُحقق معه مصر معجزةً جديدةً.. حتى يتعجب أصحاب الحيل.
يحيى حسين عبدالهادى
اللهم خِرْ لمصر واختَرْ لها حتى يتعجبَ أصحابُ الحِيَل
الإثنين، 26 مايو 2014 06:03 م
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة