محمد مصطفى موسى

صحيح.. جرذان

الجمعة، 23 مايو 2014 08:03 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
انتقلت مؤخرًا إلى منزل جديد صغير المساحة بما يناسب رجلًا وحيدًا مثلى، له بلكونة تطل على شجرة ظلالها وارفة، تصافحها الشمس بلطف، ويزورها الهواء طازجًا عليلًا، فتهيأت لفترة استجمام، بعد أشهر ستة قضيتها فى منزل كخيام الإيواء سوءًا، فابتعت كتبًا وأعددت جدولًا لإعادة قراءة أعمال كلاسيكية، منها العبقريات والمعلقات ولزوميات المعرى وديوان المتنبى.
تحلو القراءة ليلًا، عقب رحيل جحافل الصخب عن القاهرة، ومع القراءة تكتسب القهوة نكهة سلسة أسطورية، وتكتمل اللذة بتناول الكعك الفرنسى بالزبد، أو باستحلاب مكعبات الشيكولاتة الداكنة.

إنها معلقة عنترة: «ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ مني».. يخرب بيتك يا عنترة، المعنى يجعلنى درويشًا مجذوبًا أعدو فوق الغمام، متذكرًا فى وجع شهى، ذات ثغر أنيق منمق، كانت إذا ابتسمت تمتنع الأرض عن الدوران، ويصهل فى شرايينى الحنين .

وفيما أنا فى حال هى بين الصحو والإغماء، كدأبى حين تذوب روحى إذا أقرأ شعرًا، سمعت حركة تنبعث من المطبخ، ثمة غريب فى البيت، تُحدث خطواته دبيبًا ثقيلًا سريعًا كطبول أفريقية، فقصدت مصدر الصوت فإذا بى إزاءه، وجهًا لوجه.

فأر بدين قذر.. لا يبدو مكترثًا لوجودى، يرمقنى بعينين متبجحتين، وهو يتشبث بماسورة، أحسب أنها للغاز الطبيعى، لست أدرى تحديدًا، فأنا حديث عهد بالشقة، كما أننى رغم إجادتى الطهو، لا أدخل المطبخ إلا لإعداد القهوة، ففى المطاعم ما يسد الرمق، وفى المعلبات ما يقيم أود غريب وحيد.
ثوانٍ ثقيلة تحقيقًا، افترستنى خلالها التساؤلات، كيف دلف الوضيع إلى بيتي؟ ومن أى جحيم جاء؟ هل أهرب إلى لوكاندة حتى إذا طلع الصباح استقدمت فرقة لمكافحة الحشرات؟ وإذا فعلت.. فما يضمن ألا يعيث الحقير فى ملابسى قرضًا وتمزيقًا؟ هل جاء بمفرده أم بصحبة زمرة من «أهله وعشيرته»؟ ماذا لو حاولت اصطياده فمسّ جلدى بطريقة أو بأخرى؟ عندئذ سأتمنى بتر الجزء الذى لامسه من جسمى، وهل القتال فى هكذا معركة مأمون العواقب؟ على الأرجح سأفتعل صخبًا ينتهى بمشاجرة حامية مع الجيران، وماذا سأقول لهم على سبيل تبرير الضوضاء؟ كيف سيستسيغون فضيحة أن الجار الجديد مصاب برُهاب القوارض؟
قطعت التفكير بحسام الحسم، خرجت فاشتريت سم فئران وطماطم ثم شرعت أعود أدراجى، محطم الخطوات، تهزنى أنفاسى، تخيفنى لفتاتى.

إنى أدير المفتاح، أدلف إلى الشقة مترددًا متضعضع القلب، ثمة سكون مريب، انسللت إلى سريرى بهدوء، ومن ثم أخذت أقطّع الطماطم شرائح، فأرش عليها مسحوق السم، قبل أن ألقيها إلى المستعمر الغاشم، متمترسًا بموضع يتيح لبصرى أن يبلغه إذا خرج.

ها هو يقترب، قلبى يخفق بشدة، أحاول كتم أنفاسى، يقترب فيعود للوراء ثم يدنو مجددًا، فيلتهم الشريحة بنهم، فيهرب إلى حيث يختبئ بعد أن يرمقنى باستهزاء.

النذل يسخر منى.. حدثتنى نفسى الغاضبة، لا بأس سيتشنج عما قليل، متى مشى السم فى عروقه، لكن لا بأس من شريحة ثانية بـ«السم الهارى" حتى أستوثق من نفوقه.. وتكرر السيناريو بحذافيره، يقترب فيلتهم فيرمقنى فيختفى.

يا إلهى. . ماذا أفعل؟ كررت المحاولات، فلما كانت الشريحة السادسة، لم يظهر ولم أعد أسمع دبيب خطواته، ومضت ثلاثون دقيقة، لا صوت فيها إلا لأنفاسى المضطربة، لقد انتصرت إذن، فمرحى لشجاعتى وقوة بأسي!

لم يعد إلا أن أراه بعينى، فأشرب نخب النصر المجيد، سأبحث عن «الجثمان»، لكن ماذا لو كان شبع وما يزال حيًا؟ وماذا لو باغتنى من حيث لا أحتسب؟.. طردت الهاجس، تحركت أمثل دور بطولة لست أتقنه، فإذا بالحقير منبطح يلفظ أنفاسه الأخيرة على أرض المطبخ الملساء.

له بوز مدبب، وساقان أماميتان قصيرتان، ووركان سمينان، وشعر رمادى وسخ، وكرش كبير من أكل الحرام، يتدلى بجواره مترهلًا.. سحقًا إنه كائن قمىء.

تذكرت لوهلة صيحة القذافى فى خطاب التوك توك والشمسية: من أنتم؟ جرذان، كما فكرت فى الإعلاميين الذين يتسربون عبر الفضائيات.. ثمة تشابه فى المظهر الخارجى، وفى السلوك اللزج.

رفعت «الجثمان» بـ«مغرفة»، فرميت به وبها من شباك، ثم بدأت أتفقد المطبخ لأعرف من أين دخل؟ فإذا بماسورة مهجورة تخترق الجدار، ولها فوهتان مفتوحتان من الطرفين، تصلان «منور العمارة» بالمطبخ، لم أعِ سبب وجودها، لكن ليس ثمة شك فى أن الوضيع تسرب عبرها، أحكمت غلق باب المطبخ، ونمت من فرط التعب لكن على قلق نحو ساعتين، وما أن فتحت عينى حتى هرعت إلى الماسورة أسدها بالأسمنت، لمنع دخول المزيد من الفئران، وأنا أردد: صحيح.. جرذان!.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة