محمد مصطفى موسى

من هنا نبدأ

الثلاثاء، 22 أبريل 2014 08:16 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أن يظهر شيخ مُعمّم، بصحبة قسيس، فى إعلان تلفزيونى، فيحضا الناس على التبرع لبناء دور عبادة، كنائس أو جوامع، فهذه رسالة محبة لا بأس بها، وجميل أن تتصدر الأخبار صدر الصحف بأن الأزهر يهنئ الكنيسة بعيد الميلاد، أو بأن الكنيسة تهنئ المسلمين بالفطر، لكن تلك مظاهر لا يمكن اعتبارها وحدها دليلا على أن العلاقة بين مسلمى ومسيحيى مصر، سمن على عسل، و«حليب يا قشدة».

وليس عقلانيًا أن نهرب من مواجهة واحدة من أخطر أزمات الحاضر، بالسفر إلى حكايات الجدَّات حول سلوكيات تبادل الطعام بين الجيران أقباطًا ومسلمين، فهذه الممارسات صارت نسيًا منسيًا، فى المجتمع إجمالًا، وفى طبقتيه المتوسطة والغنية تحديدًا، إثر تغلغل فتاوى البداوة إلى الوجدان الجمعى المصرى، وتنامى تأثير الخطاب المتشنج لفئة من أقباط المهجر، ممن لا يخلعون أسمال المظلومية من جهة أخرى، ناهيك عما اقترفته أنظمة السادات فمبارك فالإخوان، مع سبق الإصرار من جرائم تفخيخ الأدمغة ببارود الفتنة، ضمن سياسات أخلصت كل الإخلاص للقاعدة الاستعمارية: «فرّق تسد».

هناك احتقان طائفى.. وما يظهر على السطح من مشاهد مسلوقة، لا تعدو إلا أن تكون محاولة يائسة بائسة، لتزويق ملامح امرأة بلغت من العمر أرذله، بمساحيق رخيصة بعد أن تغضنت بشرتها كثمرة طماطم فاسدة، أو هى كطلاء الجدران الخارجية لمنزل عتيق، بينما مياه الصرف الصحى تستعمر الأساس منه، وتنشع من أعمدته.

صحيحٌ أن هناك على الأرض بين الشعب الواحد، مساحات ضوء، ومن تجلياتها العبقرية، تلك السماحة النورانية التى رفرفت فوق ميدان التحرير، وقت كان الفتى النقى الراحل مينا دانيال، يتأبط ذراع أخيه المسلم فيرقصان، على ميعاد من دون ميعاد، وبعفوية سلسة، تجرى على لسانهما أغنية هى أيقونة من أيقونات يناير: «مينا.. محمد.. ليه الثورة جميلة وحلوة وأنت معايا»، لكن مجددًا هذه استثناءات لا يصح تعميمها.

إن التمعن فى قيام مدرس أحمق مؤخرًا، باغتيال صاحب متجر خردة قبطى، عبر طعنه بخسة غادرة فى ظهره، وهو يردد: «الله أكبر.. حلال حلال»، يؤكد أن هكذا جريمة لم تنشأ من العدم، وإنما من فتاوى الجهالة والحماقة، على شاكلة فتوى الشيخ ياسر برهامى، قبل الحادثة بأيام، بأن العلامة التجارية لإحدى شركات السيارات الأمريكية علامة حرام، وربما بنت حرام، لأنها تحاكى شكل الصليب.

وعلى الجانب القبطى، ومع رصد أن المسيحيين لا يرتكبون جرائم عنف طائفية، لأسباب يطول إلى ما لا نهاية شرحها، إلا أن منصفًا لا يستطيع أن ينكر أن ثمة نماذج متطرفة من القساوسة، منهم «فلوباتير» مثلًا الذى استحث ذات ليل جيوش الغرب أن تتدخل لحماية «شعب الكنيسة» المقموع، وطبيعى أن هذا التدخل سيكون ضد «الشعب الثانى"»!

وبعيدًا عن حماقات من يُصنّفون بأنهم قيادات روحية، سيكون من قبيل دفن الرؤوس فى الرمال، أن ننكر أن أنماط التربية صارت تروى بسخاء أزهار الشوك الجهنمية، فثمة مسلمات ينهين أطفالهن عن تناول طعام أقرانهم المسيحيين، ومسيحيات يغضبن لأن صغارهن تربطهم عرى صداقة بمسلمين، وربما يصل بهن الشطط إلى إسداء النصح، أو الأمر، بتخير أصدقاء من «شعب الكنيسة»، هذا فضلًا عن داهية التعليم السوداء، فليس من المدنية وربما من الإنسانية فى شىء أن نرغم طالبًا قبطيًا، على حفظ آيات من القرآن، ضمن مناهج اللغة العربية، ذلك دون أدنى مراعاة لحقيقة أن الأمر ينطوى على قمع فكرى وعقائدى وأيضًا قهر وتطرف رسمى.

لسنا متسامحين شعبًا ونظامًا، وما نتفيهق به من عبارات تتطنع حول وحدة الصف، إنما تخرج من الحناجر لا القلوب، ما يدفعنا دائمًا إلى نفيها، عبر التطبيل والتهليل والتزمير، لمشاهد الأحضان الشمعية المبتسرة بين رمز من هنا، وآخر من هناك، وهو سلوك يدخل ضمن الحيل السيكولوجية للهرب من مواجهة الأنا المعذبة بآثامها أولًا، ومن ثم للرد على اتهامات الغرب الذى يضغط بهذه الورقة المجانية علينا ثانيًا، علينا أن نمارس الاعتراف بالمشكلة أولًا، ومن هنا نبدأ.

والمؤكد أن النجاح أو الفشل، يعتمدان على وجود إرادة سياسية لوقف سياسة «فرق تسد»، ومن ثم وضع ميثاق شرف إعلامى، بعدم تضخيم أحداث الفتن الطائفية «الصغرى»، وأيضًا عدم التغطية عليها، وكذا تعديل مناهج التعليم، لتأسيس جيل من المصريين، أقل طائفية منا.

إن قصة عبقرية عمر أو خالد مثلًا، يمكن أن يصير بديلهما كتابًا كعبقرية المسيح، أو «معًا على الطريق» لخالد محمد خالد، وهو كتاب ليس أقل أهمية من عبقريات العقاد، فعبر اللغة الرشيقة والمنهج البحثى البديع - لمن لم يطالع العمل - يرصد خالد محمد خالد، ملامح التماثل فى سيرتى رسولى الله محمد والمسيح صلى الله عليهما وسلم، إذا اتخذا فى مواقف مشابهة التصرف ذاته، وقالا القول ذاته، بما يرسخ فى وعى النشء لواقع أن الديانتين فرعان من ساق واحد، وقد أورقا أخلاقًا وقيمًا ومبادئ واحدة، بعد أن سقاهما غيث السماء العذب الطهور الواحد.

من هنا نبدأ.. من فصد الدمل المحتقن، كى لا تتلوث خلايا المستقبل المصرى بثقافة التطرف أكثر مما هى ملوثة الآن.. من هنا نبدأ.. من النظر فى التعليم، باعتباره مسألة أمن قومى، لا يجوز التغافل عنها تحت أى مبررات.

من هنا نبدأ.. ذاك عنوان آخر من عناوين خالد محمد خالد، المفكر الذى فهم الإسلام أخلاقًا سمحة وتسامحًا لا تشوبه الطائفية، فلم يغرق فى وحل التفاهات والخيبة الثقيلة والعميقة، كتحريم علامة تجارية، ذلك أن الله شرح قلبه فأحب محمدًا والمسيح، وأحب من خلالهما العالمين، وناجى ربه وهو ساجد: الله محبة، فحاربه الظلاميون.. كل الظلاميين.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة