كانت أول مرة أعرف فيها أن لكل حرفة طائفتها، وأن لكل «طايفة» كبير اسمه «شيخ» عندما كنت فى السابعة يعنى من واحد وستين سنة إذ لجأ عم منصور جرجس لوالدى مدرس اللغة العربية والدين فى «مدرسة المساعى المشكورة» بقويسنا، ليقضى فى خلاف بين عم منصور صاحب البيت الذى نسكنه وبين عم فام النجار صاحب ورشة النجارة القريبة من إقامتنا، وعلى الكراسى الخشبية التى تلقيت أمرا أبويا برصها فى الحوش الخارجى جلسوا، وبعد شرب الشاى والذى منه فتح الموضوع وانتهى إلى أن الأمر أعقد وأصعب من أن يبت فيه الرجل الذى وثق فيه الطرفان، رغم اختلاف الدين!، وأعلن الوالد أنه لا بد من الرجوع إلى «شيخ الطايفة» أى شيخ النجارين لأنه هو الأقدر!
ولما كبرت ودرست «تاريخ» فى جامعة عين شمس، وقرأت ابن إياس والجبرتى، عرفت أن «طوايف الحرف» كانت تضم العشرات منها كالخيامية والحدادين والفحامين والنجارين، وأيضا الوراقين الذين كانوا يعملون فى عالم الورق والكتب!، إلى أن جاء محمد على باشا الكبير ليبنى دولة حديثة، فضيق على طوائف الحرف وأنشأ المصانع «الفابريقات» وحشد لها الصبيان الذين كانوا هم مشاريع الأسطوات فى كل حرفة!
عرفت أيضا أن الناس فى كل تلك المجالات كانوا يرتبطون مع بعضهم البعض بالاتفاق الشفهى أى «الكلمة»، وكانت الكلمة أشد وأكثر إلزاما من العقود المكتوبة، وكان شرف الرجال الأسطوات «جمع أسطى» التى جاءت منها كلمة «أسطاذ» ثم رققت لتصبح أستاذا مرتبطا بمدى احترامهم لكلمتهم، وكان الواحد منهم مهما كانت خسارته يقول: «لقد أعطيت كلمة ولا أستطيع لحسها أو الرجوع فيها»!.. ثم كان الأسطى يحترم الكلمة التى صدرت عن أحد معاونيه، لأنه كان يعتبره مثله تماما، وأن سمعة المكان تتجاوز درجة أو مكانة من أبرم الاتفاق وأعطى الكلمة، ثم إن كتب التاريخ والفلكلور حافلة بالطرائف حول تقاليد وعادات تلك الطوائف، فالخبازون والصباغون يبدأون عملهم بخلع ملابسهم كلها، ثم ارتداء قميص «جلباب» الشغل على اللحم، ولذلك إذا غضب أحدهم وقرر ترك العمل فإنه يهرول لارتداء ملابسه، وما إن يأتى الأسطى ليهدئه فإنه يناشده «صلى على النبى واخلع هدومك»!، وحتى اللصوص من فئات الهناجرة والهجامين والنشالين لهم تقاليدهم ولهم أصول مرعية يحترمون فيها مناطق نفوذهم وعلاقاتهم البينية، إلى أن نصل إلى «المناسر» جمع «منسر» أى «وكر النسر» وقد أطلقت على العصابات القوية المحترفة، وخاصة فى مناطق الريف، ولكل «منسر» شيخ يقوده ويقرر خطواته ويعطى الكلمة التى هو مستعد لأن تطير رقبته ولا تنزل الأرض!
وربما كانت مهنة الصحافة هى التطور التاريخى لمهنة «الوراقين»، وكان شأنها شأن بقية الحرف، إذ كان لها شيوخ، جيلا من بعد جيل، وقد عاش جيلى زمنا يقرأ فيه ما يكتبه محمد التابعى وأحمد الصاوى محمد ومحمد زكى عبدالقادر، وأيضا طه حسين الذى جمع بين الأدب والجامعة والصحافة، وكذلك العقاد ثم حدث ولا حرج عن الأخوين مصطفى وعلى أمين ومعهما نجم النجوم الأستاذ هيكل، وكذلك الأستاذ أحمد بهاء الدين، وكامل الشناوى، وأزعم أننى اقتربت كثيرا وصاحبت ومازحت شيخا ظل شابا إلى أن رحل، هو أستاذى وصديقى كامل زهيرى، واقتربت من الأستاذ محمد عودة والسلسال طويل، ولكن الذى يجمعهم رغم اختلاف توجهاتهم ومشاربهم الفكرية والسياسية، أنهم كانت لهم داخل أروقة المهنة تقاليد ومعايير تفرز الغث من الثمين!
ثم..
ثم جرى ما جرى وانحدرت معظم المجالات المهنية بما فيها الصحافة، وصرنا نعرف صحفا تولد لتموت بعد شهر أو شهرين، لأن مالكها أراد أن يهبر ويجرى!.. وعرفنا صحفا تجبر الصحفيين على كتابة استقالاتهم مع كتابة طلب التعيين! وأخرى تطلب من الصحفى أن يدفع مقابل تعيينه، وغيرها لا تعطى أجرا وتصر على أن يأخذ الصحفى البدل النقدى من النقابة ليدفع منه الحصة التأمينية كلها، يعنى نيابة عن المالك.. وهلم جرا.
وعرفنا مرحلة تالية فى مسيرة الصحافة عندما دخلت البرامج الفضائية وصارت لها حيثية، وباتت مجالا تحكمه اعتبارات عديدة اقتربت به من عالم المافيا لا تستطيع أن تخترقه، إلا إذا امتلكت الأدوات المطلوبة، وتحول الصحفى من نجم ينشر إشعاعه على الورق، ويستمد قيمته من كلمته ومن المعارك والمواقف التى تقترن باسمه، إلى نجم من نوع مختلف تسلط عليه الأضواء بدلا من أن تشع منه، وربما يكون هو بحد ذاته معتما أى «كوكبا»، ولكن تسقط عليه أشعة من جهة أخرى تجعله قد بدا مضيئا كالقمر!
وفى غمرة هذا كله تحللت تقاليد وقيم وأعراف حكمت المهنة، وصار الجميع يتعامل وفق منطق افتراض سوء النية مسبقا.. وأننا كلنا لصوص يا عزيزى فلا تقل لى هذه «كلمة» أو هذا «التزام أدبى»، ولكن تعال وهات المحامى واكتب ووقع وضع شروطا زمنية وجزائية!
أزعم أننى ما زلت أتعامل بمنطق ديناصورات الشرف السياسى والشرف الفكرى، ولذلك ما إن أفاتح فى أن أكتب لجهة ما حتى أبادر بالكتابة دون التفات للمستحقات المالية ولا للمساحة ولا لدورية النشر، وكثيرا أو غالبا ما كتبت مجانا، وهذا ما حدث فى جريدتى «الأخبار» و«الأهرام» التى بادرت بصرف مستحقات رمزية من عدة شهور ضمن سياق زمنى امتد لسنين لم أتقاض فيه مليما.. ومع ذلك أكتب بعد أن أذاكر، وبعد أن أمعن التفكير، وأعمد إلى أن أقدم المعلومة التى إن لم تكن خبرية، فهى تاريخية أو أدبية أو فلكلورية أو سياسية وهلم جرا، وكثيرا ما يكون البطل هو الناشر أى رئيس التحرير ومعه مالك الصحيفة، لأن العبدلله غالبا ما يدخل معارك يراها حتمية، ويجر شكل العديدين دون أى التفات للتبعات التى قد يتحملها رئيس التحرير والمالك.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة