سؤال يفرض نفسه علينا، ونحن نتحدث عن ضرورة وجود أحزاب سياسية قوية، كضمانة رئيسية أو شرط ضمن شروط حدوث انتقال ديمقراطى حقيقى فى مصر، الأحزاب فى النهاية هى أهم أدوات المشاركة السياسية المتعارف عليها فى حياة ديمقراطية صحيحة، ولكن لماذا لا يقبل المصريون على الانضمام للأحزاب؟ هل الأمر مرهون بضعف البنية التنظيمية للأحزاب؟ومن ثم عدم توفر كوادر قادرة على استيعاب الجمهور وتوظيفه من خلال أدوار حزبية؟ أم أن الأحزاب غير قادرة على صياغة برامج حزبية تشتبك مع احتياجات الناس وتبشر بإمكانية نجاحها فى إحداث تنمية؟ فى حال كسب ثقة الناخبين وتشكيل حكومة، أم أنه لا يوجد لدينا تراث حياة سياسية حقيقية بعد مصادرة العمل السياسى بعد ثورة يوليو وتبنى نظام الحزب أو التنظيم السياسى الواحد، أم أنه لا توجد ثقة فى قيادات ورموز الأحزاب بعدما تمت شيطنتها فى الوعى الجمعى، من خلال العديد من وسائل الإعلام المدعومة من جهات أمنية مرتبطة بالنظام السياسى الأسبق، فى إطار خطة حرق البدائل، حيث عشنا طويلا فى عهد مبارك تحت لافتة من يملأ فراغ مبارك فى حال غيابه، لا شك أن التجريف الذى طال الحياة السياسية وجعلها على حد الأستاذ هيكل كبحر جفت المياه فيه وأضحى مليئا بالطحالب والبكتيريا، هو أحد الأسباب أو ربما خوف الأحزاب من الخروج من العاصمة، والانتشار فى عموم مصر ومخاطبة الناس فى القرى والنجوع والأرياف، والخروج من جاذبية أضواء المدينة، هل الأحزاب لديها مشكلة فى خطاب كل هؤلاء ونحتت خطابا يغازل تطلعاتهم؟ بمعنى هل المشكلة فى التنظيم السياسى؟ أم البرامج؟ أم الخطاب؟ أم الحالة النفسية لجمهور يرى هذه الأحزاب تجمع أصحاب مصالح وهذه ليست سبة بالمناسبة، فالأحزاب فى أحد التعريفات العلمية تجمع سياسيا يجمع أصحاب مصالح مشتركة، بهدف تحقيقها أو السعى الدائم لتحقيقها من خلال آليات سياسية كالانتخابات والتنشئة والحشد والتعبئة، فإذا كان المصريون يرفضون الأحزاب لهذا السبب، فهم يرفضون العمل الحزبى إذن، ويكون لدينا حينذاك مشكلة معرفية لابد أن تعالج، من خلال وسائل التعليم والثقافة والإعلام، تضاف إلى سلسلة من المشاكل المتعلقة بضرورة صناعة وعى جماهيرى لازم وضرورى لقضية التنمية والتحديث، أظن أن كل هذه الأسباب قد تكون من أسباب عدم إقبال الناس على الانضمام للأحزاب.
فى تقديرى أن جزءا من مهمة أى نظام سلطوى مستبد، أن يظهر كل بدائله فى صورة سيئة أو مبتذلة، بحيث يبقى هو دوما بطل الرواية ولو تابعنا معركة الانتخابات الرئاسية الحالية سنجد ظلا واضحا لما نقول. من غير المتصور أن ينضم جل المصريون للأحزاب، التى تضخم عددها فى مصر بحيث أصبحنا أمام 90 حزبا تقريبا، بمعنى أنه يوجد حزب لكل مليون مواطن، وهذا مفهوم فى إطار السيولة فى الأفكار والرؤى والتطلعات التى تحدث غالبا فى أعقاب الثورات، أو الكبت والقهر الطويل الذى عشناه لعقود، وكل الدول التى مرت بتجارب مشابهة حدث فيها بعض ذلك، ولكنها فى خلال خمس أو عشر سنوات أدركت حقائق الواقع وراجعت إمكاناتها، بحيث وجدنا أن الأحزاب ذات المرجعية المشتركة اندمجت وكونت من بينها حزبا أو اثنين، وتقلصت الأحزاب فى أقصى الأحوال إلى عشرة أحزاب، تبرز من بينها ثلاثة أحزاب هى الأقوى والأقدر على الوصول للبرلمان والحكم، فهل سنحتاج نحن فى مصر سنوات أكثر لكى نصل لتلك المرحلة؟ أظن ذلك لسبب خاص جدا متعلق بالثقة بين الناس، ومبدأ أن الأصل فى الناس البراءة الذى هو المبادئ المستقرة فى كل دول العالم إلا فى مصر، الأصل فى الناس لدينا أنها متهمة إلى أن يثبت العكس، وفى الغالب لا يثبت العكس، فالكثيرون يفضلون الاستسلام لسوء الظن وتصديق الشائعات بديلا آمنا من وجهة نظرهم لحسن الظن، الذى هو فى ثقافتنا من مكارم الأخلاق ولكن من قال إن الأخلاق لا زالت توجه سلوك أحد الآن، ولعل واقعنا الثقافى بمفرداته السينمائية والغنائية ما يغنينا عن شرح ما نعنيه.
الأحزاب دوما تكون تعبيرا عن قوى اجتماعية موجودة، تعبر عن نفسها وعن مصالحها سياسيا ولأن مصر أم العجائب، فالقوى الاجتماعية الحقيقة فى هذا البلد لا توجد أحزاب تمثلها بينما توجد أحزاب لا تمثل سوى بضعة أشخاص أو عائلات، لا يعبرون عن أى قوى اجتماعية، العمال الفلاحين النوادى الكبيرة التى يبلغ عدد أعضائها ملايين، كل هذه قوى اجتماعية ليس لها أحزاب ولم تجد فى الأحزاب المصرية من يقدر على تمثيلها.
حتى ما يسمى بالتيار الإسلامى عندما قرر خوض الحياة السياسية بعد ثورة يناير أسس أكثر من عشرة أحزاب ما بين سلفية وإخوانية وجهادية، ولم يندمج فى حزب أو اثنين، وربما هو كان صاحب النصيب الأكبر فى أول برلمان منتخب، حيث حازت ثلاثة أحزاب إسلامية هى الحرية والعدالة والنور والبناء والتنمية، والتى عكست ألوان الطيف الإسلامى أكثر من %70 من مقاعد أول برلمان منتخب، وربما كان السبب الرئيسى لذلك عاملين تفتقر لهما باقى الأحزاب المدنية.
الأول التماسك والالتزام التنظيمى الصارم المرتبط بالسمع والطاعة، بحيث نجد أن صيغة تلك الأحزاب أقرب إلى جيش يخوض معركة وهو يضم عددا محدودا من الجنرالات أو القيادات مقابل عدد كبير من الجنود المخلصين العاملين، بينما الأحزاب المدنية فى الغالب نجد عددا كبيرا من الجنرالات أو القيادات، يمضون الوقت فى خلافات لا تنتهى، دون وجود جنود أو قواعد تنفذ ما لم يتفقوا عليه!، أما العامل الثانى: فهو التمويل فبينما يدفع العضو فى الحزب الإسلامى بطيب نفس الاشتراك أو التبرع، ويحرص على ذلك فى إطار صيغة يلتبس فيها الدينى بالدنيوى، ويعتبر أن جهده فى الحزب قربة لله وطريقا لتمكين دينه وبرنامجه، يتعامل العضو الآخر فى الحزب المدنى فى الغالب مع الحزب باعتباره صيغة يتكسب منها، وبالتالى هو لا يرغب فى أن يتكبد من أجل ذلك شىء، فتواجه الأحزاب المدنية مشكلة التمويل وهو عامل حاسم فى نشاط أى حزب، فبدون مال لا حركة ولا نشاط فالمال عصب الحياة فى الأحزاب أو فى غيرها.
فى النهاية العمل الحزبى نشاط إنسانى قوامه اجتماع الناس على أهداف وبرامج ورؤى مشتركة، تبنى من خلال التنشئة السياسية الصحيحة، وهو أمر تفوقت فيه الأحزاب الإسلامية على الأحزاب المدنية، حتى لو اختلفنا مع مفهوم تلك التنشئة أو أهدافها، لكنها فى النهاية تصنع ولاء تنظيميا كاملا وتماسكا قويا، هو عماد نجاح حركة أى حزب، أعتقد أن تجربة الأحزاب الإسلامية من المهم أن تدرسها الأحزاب المدنية لتتعلم منها مهارات حركة تفتقدها، وتماسك تنظيمى هى فى أمس الحاجة إليه، ودون ذلك لا أظن أنه سيكون لدينا أحزاب سياسية حقيقية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة