الفقر فى الأوطان غربة، والتهميش غربة أقسى، والمعرفة والعلم والخبرة والموهبة غربة، لأن من يمتلكون هذه المؤهلات تنتابهم مرارات حينما يرون «أهل الثقة» والمحسوبية يتصدرون الصفوف، ويعتلون مناصب بمؤهلات النفاق و«مؤسسة الشلة» التى صارت أخطر أمراضنا الاجتماعية فهى تحكم مصر تحت الطاولة، فأهل الريف والصعيد يسكنهم إحساس عميق بالتهميش والاغتراب حتى أبناء الطبقة الراقية اجتماعيا، وأقصد الرقى الحضارى وليس الثراء، يعتبرون أنفسهم غرباء فى ظل الانحطاط الحضارى وشيوع الهمجية والبذاءات، وتبخر أبسط قواعد السلوك المتحضر، لدرجة أن بناتا وسيدات يتبادلن الحديث بتعبيرات سوقية يبدو أنها صارت «عنوان المرحلة»، وبالطبع أبناء العشوائيات يكابدون الغربة بعدما حاصرهم الفقر وعقدة الدونية، فقد الريف هويته حينما راحت الأجيال الجديدة تقلد أبناء المدن فى مظهرهم، فوجدوا أنفسهم تائهين بين منظومة أخلاقية كانت تسمى «الأصول»، ومظهر حداثى شكليا، فمازالت المسافة بينهم وبين المدنية واسعة.
وفقدت المدينة هويتها الحضارية وخاصة العاصمة القاهرة والمدن الكبرى كالإسكندرية وطنطا والمنصورة وأسيوط بعد موجات النزوح الريفى التى شكلت ظاهرة «ترييف المدن»، فتخبطت وشكلت مزيجا غير متجانس من الأنماط الاجتماعية، وترهلت القاهرة بفعل أحزمة العشوائيات حتى أصبحت «خطيئة معمارية» تحتاج لمعجزة لعلاجها، لهذا غادرها أبناء الطبقة الوسطى العليا للمدن الجديدة، وتجسدت «ثقافة الكومباوند» حيث يعيشون بمأمن بعيدا عن الزحام والتحرش والمشاجرات التى شاعت لأتفه الأسباب، حتى طلبة المدارس والجامعات الحكومية أيضا صاروا غرباء، تلاحقهم «عقدة الدونية» مقارنة بزملائهم فى المدارس والجامعات الأجنبية.
تاريخنا أمسى غريبا بعد عقود طويلة من التزييف المتعمد لدوافع أيديولوجية أو دينية، خاصة حينما ينضج المرء ليكتشف بعد قراءة التاريخ من مصادر موضوعية أنه كان ضحية عملية منهجية استهدفت «تزييف الوعى» فتراجعت مشاعر الوطنية لصالح الهويات الفرعية، وهو ما عمّق الطائفية والتعصب بالمجتمع، وكرّس انعدام الثقة بين المواطنين والحكومات التى تلاعبت بعقله، تراجعت القيم الإنسانية النبيلة أمام الفهلوة و«الاشتغالات» والنفاق والابتذال، وتغولت الأفكار المتطرفة حتى أصبح الاعتدال غريبا، ويسعى الشاب للهجرة، ورحم الله أياما كان المصرى عندما يغادر فيها مدينته أو قريته لأخرى داخل الوطن يعزى نفسه بالعبارة الفولكلورية «غربة ومروحين»، لكن الآن أقرأ عبارات لشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعى مثل «لو لم أكن مصريا لكان ذلك قشطة جدا».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة