المساء أثقل من المعتاد، لزج كلعاب كلب ظامئ، والسيارة تقطع الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية بكسل بليد، والملل يستوطن خلايا القلب خلية خلية، لولا أن موسيقى السائق ذى الذوق الرفيع، الذى يشاطرنى هوى استثنائيًا بألحان بليغ حمدى، وصوت أم كلثوم، تخفف بعض الشيء من الضجر بدرب أقطعه أسبوعيًا نحو مسقط رأسى.
السائق الخمسينى، يردد مع الموسيقى بصوت خشن كمزلاج باب يعلوه الصدأ كلمات "سيرة الحب"، لكنه كان منفعلاً بالكلمات يُمزمز مخارج الألفاظ مزمزةً، فأشاع أداؤه العفوى فى نفسى شجنًا مؤلمًا حلوًا فى آن.
إلى جوارى، يجلس عشرينى نحيف مديد القامة أسمر البشرة، وعلى عينيه ضمادة طبية.. لعله أجرى لتوه جراحة ما، وقد يكون من مصابى الثورة، الورد البلدى الذى منحنا نور عينيه، وخربش بأظافره الغضة جدران المستحيل حتى سقط الفرعون.
سأتجنب الحديث إليه، فلا طاقة لى بأن أواسيه بكلمات بلهاء لا أحسبه يحتاج إليها، فهو ومن مثله من المدهشين، هم حقًا أولو العزم فى هذا الزمان، معتصمون بأحلامهم متشبثون بالحرية، لا تزيدهم انكساراتهم إلا صلابة، ولا تؤدى آلامهم إلا إلى شحذ عزائمهم وبأسهم، لكن المأساة اقتحمتنى رغم أنفى، إذا شرع يشكو إلى مرافق له، ما يفور فى مقلتيه من نيران تكويهما، متحدثًا عن حاجته إلى النوم بعد الجراحة التى خضع إليها، سائلًا الله بصوت يترقرق ضراعة، أن يستعيد قبسًا من النور، فيخرج من دوامات العتمة، التى تبتلعه منذ جمعة الغضب.
السائق لا يزال يغنى، وقد انتشى طربًا، ألا يعى أن صوته لم يخلق للغناء؟ والسيارة لا تزال تترنح، وأذناى لا تزالان تلتقطان مرهفتين سعال محركها المتهالك، وهمس الشاب بجوارى إلى مرافقه.
إننى أصغى بذات النهم والتركيز لكل شيء صامتًا مستغرقًا فى تأمل المشهد النابض، فانتقل من فكرة إلى أخرى، ومن واردة إلى شاردة، حتى كدنا نصل الإسكندرية عبر طريق وادى القمر.
ما هى إلا نصف ساعة فنصل، وابنتى ذات الثمانية، تتصل كل خمس دقائق، وأنا فى قمة الشوق إليها، ما أطول الوقت حين نسأله رحيلاً، وما أقصره حين تومض السعادة قبل أن تخبو.
وفجأةً.. شرعت السيارة تهدئ سرعتها، ثمة تكدس مرورى استثنائى، وأخيرًا أصيبت العجلات بشلل رباعى، وبدأ الركاب يتساءلون فيستفسرون فيتأففون فيتذمرون، والسائق يصرخ فى وجوههم حينًا، ثم يتجاهلهم منشغلاً بموسيقاه فى حين آخر.
طال الوقت، ساعةً فاثنتين، ولا أحد يعرف تأويلًا.. جمود وليل كثيف مبهم وموسيقى وضجر وهمهمة ركاب.
تحرك سرب السيارات أخيرًا.. لكن لبضع ثوانٍ، قبل أن يتوقف دقائق، وهكذا دواليك أخذ السرب يتوقف فيتحرك مترًا تلو متر، ما جعل أعصابى مشدودة كأسلاك الكهرباء على الأعمدة، فنزلت أستطلع الأمر، فإذا بخمس شاحنات مقلوبة تسد الطريق من الاتجاهين، وإلى جوارها تقف سيارتا شرطة خرج منهما ضباط غير مكترثين بالأمر، يدخنون ويدردشون ويحتسون شايا وقهوة، بينما السائقون نزلوا من سياراتهم للتصدى للحالة المنفلتة، دونما خبرة أو دراية، فإذا المشهد فوضوى عبثى، ومسجل عليه "صنع فى مصر".
ومثلما طال الوقوف ساعتين، استغرق تجاوز نقطة الحادث، التى قطعتها على قدمى فى نحو سبع دقائق، نحو ساعتين، فهذا يشتم الكل ويلعن الكل، وذاك يرفض إعطاء أولوية العبور، وتلك تصرخ.. حتى اقتربت الساعة من الثالثة بعد منتصف الليل، وطبيعى أن ابنتى كانت استسلمت للنوم كسيرة القلب، فلنصل إذن وقتما نصل، فقد تشابهت المآلات.
وبينما القلوب تفور غضبًا، صرخ الشاب إلى جوارى فى السائق، شاكيًا من أن موسيقاه أصابته بالصداع، فما كان من الأخير إلا أن استشاط غضبًا، فرد بأن هذا أدنى مستوى للصوت، فتمتم الشاب ثلاثًا بصوت ذبيح: ربِّ إنى مظلوم فانتصر، فما كان إلا أن عاتبت السائق برقة، فارتسمت على محياه علامات تشف عن أن ضميره يقرعه فأسكت موسيقاه، وأخذ يعب دخان سيجارة محلية الصنع بعصبية، دون أن ينبس ببنت شفة.
وهكذا اكتملت عناصر صورة جامعة فيها تفاصيل تضافرت عفويًا لما بعد ثورة يناير.. سائق لا يعبأ بشيء، يمثل شريحة حزب الكنبة، وشاب ثار فلم يجد من المجتمع إلا نكرانًا، ودولة تتعمد الغياب، وفوضى تحكم وتتحكم، وصولا إلى المواطنين الذين تعطلت مصالحهم، فحاولوا دون دراية تنظيم المرور.
بعد اجتياز نقطة الاحتقان، واقتراب السيارة من طريق الحرية، أسندت رأسى إلى الشباك، أغالب دمعًا فاض لا إراديًا، وأرفع عينى إلى السماء، فأدعوه عز وجل، اللهم اتمم نور الثورة علينا، وارحمنا ممن يريد بنا السوء.. وكان القمر بدرًا، فشعرت بأن الضياء يغسل روحي.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة