لطالما ردد آباؤونا وأجدادنا قول أمير الشعراء أحمد شوقى: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، فى التأكيد على أهمية الأخلاق فى مسيرة الأمم، فى أصل وجودها، ولعل غبار المعارك السياسية التى أطلقتها الموجات الثورية فى 25 يناير وما تلاها من جدل لم يهدأ بعد، لكننا نستطيع أن نرى بوضوح خطرا داهما يهدد وجود الدولة وسلامة توجهها، أنا لا أتحدث عن أخطار خارجية كاستهداف مصر من أعدائها فى الأقليم أو العالم، إنما أتحدث عن خطر داخلى لا يقل خطورة عن هذا الخطر الخارجى، هذا الخطر يتمثل فى غياب الحد الأدنى من الأخلاق فى مصر، سواء الأخلاق الدينية أو الوطنية او حتى الإنسانية، حاول كثير من مفكرينا تسليط الضوء على هذا الأمر، من خلال كتابات مهمة رصدت تبدل منظومة القيم لدى المصريين فى العقود الأربعة الأخيرة مثل الدكتور جلال أمين فى كتابه ماذا حدث للمصريين، أو غيرها من الكتابات، لكن الأمر فى تقديرى يحتاج إلى هبة قومية شاملة، ترفع شعار أمة فى خطر تستعيد عافية الأخلاق بمستوياتها الدينية والوطنية والإنسانية، إن احترام الكبير على سبيل المثال كقيمة تحفظ اعتبار الخبرة والسبق تم هدمها، تحت عناوين براقة تتحدث عن هدم البطريركية أو السلطة الأبوية فى الحكم، فتهدمت معها كل القيم وتعززت الفجوة بين الأجيال، كل جيل يتهم الآخر بأنه سبب المشكلة، هل شبابنا فى الشوارع والميادين والجامعات يحترمون الكبار؟ أم يحتقرونهم ويتهمونهم بالعجز والسلبية والخنوع فى مواجهة الحكام؟ وأنهم العقبة الكؤود فى طريق التغيير، وأنه لولا هذا الجيل من العجائز لكنا نرفل فى حلل المجد والتقدم؟.
هل شوارعنا التى يشتبك فيها الناس بأحط أنواع السباب والسلاح والبلطجة والتحرش وكل الجرائم هى شوارع مصر الآمنة؟ هل مدارسنا التى يتسلح التلامذة فيها بالمطاوى ويدخنون كل أنواع المخدرات ويتبادلون عبر تليفوناتهم الرسائل والأفلام الإباحية، ما يدل على أنها مدارس مصر؟، هل جامعاتنا التى يحرق الطلبة أثاثها ومنشآتها ويعتدون على الأساتذة هى جامعات مصر، التى خرجت أساطين العلم والفكر والأدب؟.
هل لازالت القرية المصرية هى تلك القرية التى كان الرئيس السادات يتمثل رصيدها القيمى، متحدثا عن أخلاق القرية من التكافل والمودة ورعاية الفقير والأخذ على يد الظالم ونصرة المظلوم، وحل الخلافات قبل أن تصل لأروقة المحاكم، هل تعلمون أنه لدينا أكثر من 26 مليون قضية فى المحاكم ما يؤشر إلى مستوى السلم الأهلى فى مصر، ودرجة الانسجام والوئام بين المواطنين؟، هل لازالت مصانعنا ومزارعنا تمور بالعمل الجاد والإنتاج، أم تعطل الكثير منها بفعل البطالة المقنعة وتبديد طاقة العاملين حينا، وبفعل الفساد فى الإدارة حينا آخر؟.
هل تذكرون مقولة أحد رجال نظام مبارك، يوم تحدث عن أن الفساد فى المحليات للركب وقال الناس وقتها إنه بلغ الأعناق، كأننا نتحدث عن شعب آخر ومن هم الناس الذين يديرون المحليات أليسوا فى الغالب أبناء هذه الأماكن أليس الموظف الذى يرتشى ويفسد المنشآت ويتآمر على مرافق حياته، لا يعلم أنه أول من سيعانى آثار هذا الفساد قبل أى أنسان آخر؟، كيف يفكر هذا الشخص وما هو الوازع الذى يحركه أو يدفعه لأن يفسد حياته بنفسه، هل هى الحاجة للمال الذى يلزمه لمواجهة متطلبات حياته التى تغيرت كثيرا وتشعبت، بالمناسبة هذا الشعب عاش مئات السنين على أقل الطعام واللباس والمأوى، ويوم تبدل نمط حياته واستيقظ وحش الاستهلاك الذى أطلقته عليه الرأسمالية العالمية، وتحديدا مع انفتاح السداح مداح كما سماه الراحل أحمد بهاء الدين، تبدلت منظومة قيم الإنسان المصرى وأصبح غير راض بحياته لا فى المأكل ولا المشرب ولا المسكن، وحلت الفهلوة محل الكفاءة والعلم والأمانة، وتعقد نمط حياة الإنسان المصرى، ولم تعد ترضيه أغنية لأم كلثوم يستمع لها فى أمسياته الليلية الهادئة ولا الشيخ رفعت ينساب صوته ليأخذه إلى الفردوس الأعلى ثم ينام، ليستيقظ مع خيوط الفجر ليذهب لحقله أو مصنعه وهو راضى النفس هادئ الضمير صحيح الوجدان؟، الآن تحول هذا النمط الهادئ والأكثر إنسانية إلى نمط زاعق دميم، فسهر للفجر أمام الفضائيات أمام فيلم يطفح بالجرائم التى تطبع مع وعيه أن هذه هى حياته ويجب أن يقبلها هكذا، أليست السينما مرآة الواقع وهذا هو واقعه، وعليه أن يتكيف معه هكذا؟، وسهر الأبناء مع الآباء وتبدلت الأخلاق والطبائع واللغات وعرفنا القلش والتنكيت والتبكيت وكل ما هو تافه وضئيل، وتحولت الشخصيات الى مسوخ تحاكى مسوخ السينما، التى كانت هى والمسرح من قبل، مدارس ترتقى بالأخلاق وتهذب الوجدان، فتحولت تحت مطارق الانفتاح إلى مواخير تبث سمومها لتفسد الفرد والأسرة.
إن إنشغالنا بالجدل حول ما هو سياسى، يجب ألا يشغلنا عما هو أخلاقى وإنسانى، إن أى نهضة فى هذا البلد لا تنطلق من إصلاح أخلاقى شامل، تعود معه مؤسسات التنشئة لأداء دورها فى استعادة الأخلاق الأصيلة لهذا الشعب التى تنطلق من الدوائر الثلاث الدين والوطن والإنسانية، هى بناء على شفا جرف هار لا يلبث أن ينهار، إن البناء يجب أن ينهض على قواعد راسخة، ليصمد للزلازل والبراكين التى تجتاح حياتنا كل يوم، إن فرنسا لم تهزم فى الحرب العالمية إلا للضعف الأخلاقى والانفلات الذى التهم طاقة الشباب وبددها فى المواخير، فدخلت الحرب بجيل ضائع لم يصمد لنزال.
من نافلة القول أن نقول إن إصلاح الأخلاق يستلزم إصلاح مؤسسات التربية والتنشئة مثل الإعلام والتعليم والثقافة والأزهر والكنيسة، والأسرة المصرية هى حقل عمل كل هؤلاء، وتستطيع أن ترصد إنجاز تلك المؤسسات سلبيا كان أم إيجابيا من خلال استقراء أوضاع تلك الأسرة، فبقدر الترابط الأسرى والاستقرار والوعى لدى أفرادها، والنجاح فى الدراسة والعمل والتعايش مع غيرها من الأسر فى مودة وانسجام وتعاون وتسامح، بقدر النجاح من قبل تلك المؤسسات، ولكن إصلاح تلك المؤسسات ظل مطلبا تحدث عنه الكثيرون دون أن يتجسد فى الواقع، لارتباطه فى الغالب بإرادة النظام السياسى الحاكم الذى لم تتكشف رؤيته بعد، إن الاكتفاء بجهد مؤسسات الدولة فى إصلاح أخلاق الناس وهم كبير، فهذا الجهد فى الإصلاح يحتاج إلى ملايين العاملين وعشرات الأعوام، مع صدق التوجه والإخلاص فيه لذا لابد من التعاون بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدنى فى النهوض بهذا الأمر، وفق منظومة جادة للدعم والمتابعة، إن نهوض عمل جاد من خلال مبادرات شباب واعدة لمسنا بعضها، ورعاية الدولة لها بتوفير أجواء الأبداع، وفتح أبواب الأمل ومقاومة حالة التيئيس بالإصرار على المضى فى إصلاح شامل، يبدأ بالإصلاح الأخلاقى الذى أراه منطلقا للتغيير لا يقل أهمية عن الإصلاح السياسى أو الدستورى، ويا ليت قومى يعملون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة