سقط التمثال، وبقيت له قدمان راسختان فى الأرض.
عبارة قالها ماجد عبد الهادى مراسل الجزيرة - قد تكرهها لا بأس - لحظة سقوط تمثال صدّام حسين من فوق منصته بميدان الفردوس، بالعاصمة العراقية بغداد، متحطمًا من ركبتيه، إثر جره بحبال من حديد الصلب، مثبتة ببلدوزر وعدسات فضائيات العالم، ووكالات الأنباء، فى أوج يقظتها، تنقل مشاهد بدء احتلال العراق، ولا تدع منها شاردة أوواردة.
عبارة موجزة بديعة، أميز ما يميزها، أن جاءت مرتجلة سريعة، لامعة كومضة شهاب، وأيضًا من وحى ظرفى الزمان والمكان، والمشهد الذى سجلته بدقة صحفية متناهية، وفى الوقت ذاته، بعمق يسترعى الانتباه، ويستحث خلايا المخ على التفكير والتدبر.
كان صدام وآله وسدنة دولته من البعثيين العبثيين قد تبخروا، وعلى رأسهم وزير الإعلام سعيد الصحاف، الذى اختتم حياته السياسية بمؤتمر صحفى خاطف سريع، أكد فيه أن الجيش العراقى يوّجه لقوات جورج بوش "الولد حسب تعبيره"، ضربات موجعة قاصمة، ونعت جنود الاحتلال بالعلوج، وهوالنعت الذى حيّر الناس آنذاك، فانكبوا على معاجم اللغة، فعرفوا أن العلج بكسر العين هوالجاف الفظ من الرجال، ويقال: علوج الروم أى ضخام الأجسام، أما العلج بفتح العين، فهوالحمار السمين.
أيّما يكون، سقط التمثال، وانزاح الكابوس، وتحطمت القبضة الفولاذية، لكن ما تلا ذلك، لم يكن انعتاقًا من الأسر، وتذوقًا لفرات الحرية، فى بلاد الرافدين وإنما بداية لخروج أفاعى الجنون من الجحور.
المكبوتون الذين دأب الزعيم، سادس الخلفاء الراشدين، شمس العراق، القائد المغوار، قاهر الصهاينة والمجوس، كما كان يصفه الإعلام المخنث، على سحقهم وتشويه ملامحهم كى يجعل منهم نسخًا ممسوخة ماسخة من ذاته المنتفخة الجوفاء، بعد أن استقبلوا دبابات الاحتلال بالورود، انطلقوا سعيرًا يفور، فاجتاحوا المتاحف فأمعنوا فى شواهد حضارة أسلافهم تخريبًا وتدميرًا، ضمن تراجيديا عبثية لا يمكن تفسيرها إلا بأن الشعب قد كفر بوطنه، بعد أن ذاق الذل مرًّا، وتجرع المهانة مريرة حتى الثمالة.
يقول الشاعر العراقى أحمد مطر: نموت.. نموت ليحيا الوطن، يحيا لمن؟
هذا السؤال الشعرى لا الشاعري، المباغت كوجع ضرس بعد منتصف الليل، ينفى بحسم قاطع جامع مانع، ما تروج له أغنية عليا التونسية: "ما تقولشى ايه أديتنا مصر"، فالحب -أى حب- ليس حركة من اتجاه واحد، لكنه فعل ورد فعل، أخذ وعطاء، سؤال وجواب، فلا حب عشوائيًا أوبالقصور الذاتي.
وبالعودة إلى مشاهد دراما العراق الشكسبيرية، فحالما فرغ العراقيون من المتاحف، عاثوا كالتتار البرابرة تخريبًا فى المصرف المركزى والوزارات والممتلكات العامة والخاصة، فإذا عاصمة الخلافة تغدوهشيمًا يذروه الجنون، وإذا الفوضى تعصف بكل فج عميق، دون أن يسلم منها سوى وزارة النفط التى وضع المحتلون أمامها تحصينات مشددة، نظرًا لارتباطها بمصالح صقور البيت الأبيض، من أعضاء إدارة بوش، أمثال ديك تشينى ورامسفيلد.
ولم ينته المشهد، فالجنون تناسل من رحم الجنون، فإذا الطائفية تحز رءوس أبناء الشعب الواحد، على هتافات الله أكبر، والاضطهاد الدينى يدفع المسيحيين للهجرة، والأقلية السنية بالجنوب تتجرع التنكيل، بعد أن كان النظام الساقط ينصفها ظالمة ومظلومة، وإقليم كردستان يرفع علمًا خاصًا، ويمنع استخدام اللغة العربية ردًا على رفض النظام استخدام الكردية، والأكراد يطالبون بالاستقلال الذاتى.
وهكذا مضت الدراما العراقية تتعقد، بما لا يوحى بأن حلاً فى الأفق، أوأن كوة صغيرة يمكن إحداثها بجدار الكراهية، ما يكشف حقًا عن أن قدمى التمثال كانتا راسختين بعد سقوط رأسه.
وأظهرت الأيام أن القدمين كانتا قدمين من الديكتاتورية والوحشية والرأى الواحد والحزب الواحد والرجل الواحد.
قدمان داستا على فرص التعايش فى دولة بطش، عششت الكراهية سرطانًا فى نخاع عظامها، فاندفع مواطنوها أوبالأحرى مقموعوها ولا يزالون لخرق السفينة التى تحملهم معًا، فيما الأنظمة القمعية بالجوار، تقتفى خطا صدام، وتستن بسنته السيئة، وتهدد شعوبها الظامئة إلى الحرية بمصير العراق، وأبواقها ممن يسمون بالمثقفين، يترحمون على عراق القمع، محذرين من سيناريوهات الفوضى الخلاقة، دون أن تنتبه إلى أن المؤامرة الأكبر والأخطر على أى وطن، هى القمع والقامعون بأمرهم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة