الرزق غير الأجرة. أما الرزق فى اللغة فهو العطايا والمنح المنقطعة أو الجارية. والمقصود بالرزق عند الفقهاء كما عرفه ابن عابدين فى «حاشيته»: «ما يفرض فى بيت المال بقدر الحاجة والكفاية مشاهرة أو مياومة».
وأما الأجر فى اللغة فهو عوض العمل أوالمنفعة. وضابطه عند الفقهاء كما ذكره ابن قدامة فى «المغنى»: «أن كل ما جاز ثمناً فى البيع جاز عوضًا فى الإجارة». وكما يكون الثمن باتفاق المتبايعين يكون الأجر باتفاق المتعاقدين غالباً.
وبهذا يتضح أن الفرق الأساسى بين الرزق وبين الأجر عند الفقهاء يرجع إلى تكييف العلاقة بين طرفى المعاملة المرتب عليها الأجر أو الرزق، فإن كانت تعاقدية، فإن ما يأخذه العامل يكون أجرًا وتجرى فيه المشارطة، وإن كانت تكليفية بحكم الولاية، فإن ما يأخذه العامل يكون رزقًا ويكون إذعانًا من الولى لا يخضع إلا لحد الكفاية الإنسانى.
وقد اختلف الفقهاء فى حكم منح القاضى رزقاً أو اشتراطه أجراً مقابل توليه عمل القضاء، ويرجع سبب اختلاف الفقهاء فى حكم رزق القاضى «عطايا بيت المال» إلى أن تلك العطايا فى حكم الأصل مقيدة بحال الاحتياج والفقر، فلا يجوز للإمام «الحاكم» منحها لغير محتاج ولو كان من أفضل الناس، كما يرجع سبب الخلاف فى حكم أجر القاضى إلى أن الأجر يكون فى شؤون الدنيا وليس فى القربات والطاعات كالصلاة والصيام، والقضاء شبيه بتلك الطاعات. كما أن الأجر يكون فى عمل معلوم لمنع النزاع، وهذا غير متحقق فى عمل القاضى، ونذكر فيما يلى مذاهب الفقهاء فى مسألتى رزق القاضى وأجره، ثم نبين اختيار المصريين منها.
أولًا: رزق القاضى
اتفق الفقهاء على جواز منح القاضى رزقاً يحقق له وأسرته الملزمة منه حد الكفاية إذا كان من أهل الحاجة، أما إذا كان من الأغنياء فقد اختلفوا فى حكم إعطائه هذا الرزق على مذهبين.
المذهب الأول: يرى جواز أن يطلق الحاكم للقاضى من الرزق ما يكفيه من بيت المال، والأفضل للقاضى أن يأخذه ولو كان غنياً حتى لا يحرج من بعده، وهو قول بعض الحنفية والإمام مالك وبعض أصحابه، وبه قال أبوبكر الشاشى شيخ الشافعية فى عصره، والمتوفى 365 هـ، وهو المذهب عند الحنابلة، وبه قال شريح وابن سيرين. وحجتهم: (1) ما ذكره السمنانى الحنفى فى «روضة القضاة» أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وولاه أمرها رزقه أربعمائة درهم فى كل عام، وذكره القرافى المالكى فى «الذخيرة» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرزق عتاب بن أسيد أربعين أوقية فى السنة. قال القرافى: رواه الزهرى ولم يبين ذهباً ولا فضة. (2) ما ذكره السمنانى فى «روضة القضاة»، وابن قدامة فى «المغنى» أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبى عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل فى الشام، أن ينظروا رجالاً من أهل العلم من الصالحين من قبلكم فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم فى الرزق واكفوهم من مال الله؛ ليكون لهم قوة وعليهم حجة. (3) ما ذكره ابن قدامة فى «المغنى» أن عمر بن الخطاب استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقًا، ورزق شريحاً فى كل شهر مائة درهم، وبعث إلى الكوفة عماراً وعثمان بن حنيف وابن مسعود ورزقهم كل يوم شاة نصفها لعمار ونصفها لابن مسعود وعثمان، وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم. (4) ما ذكره القرافى فى «الذخيرة» أن عمر بن عبدالعزيز أجرى للقاضى دفع مائة دينار فى السنة، وكان يوسع على عماله ويقول: ذلك لهم قليل إذا أقاموا كتاب الله وعدلوا. (5) أن إعطاء القاضى رزقاً يرفع الضرر عنه بإلزامه ما لا يلزم، فحسب القاضى أن يبذل علمه واجتهاده فى فصل النزاع بدون مقابل، فلا يجمع عليه بين هذا البذل وبين مؤونة وكلفة معيشته فى زمن القضاء حتى لو كان غنياً؛ خاصة أن القاضى كثيراً ما ينفق على مستلزمات عمله من ورق المحاضر والسجلات والأقلام والملبس والمواصلات. (6) أن إكفاء القاضى وأسرته الملزمة منه بالرزق من بيت المال يحفظ نزاهة القضاء فلا يطمع القاضى فى أموال المتخاصمين، وإذا فعل ذلك مع إكفائه فى الرزق لم يكن له عذر عند مؤاخذته. (7) أن القاضى عامل فى خدمة الناس فكانت كفايته عليهم بالرزق لا من طريق الأجر، ولو لم يجز فرض الرزق له من بيت المال لتعطلت وضاعت الحقوق.
المذهب الثانى: يرى عدم جواز منح القاضى رزقاً إذا لم يكن محتاجاً. وهو قول بعض الحنفية والمازرى وغيره من بعض المالكية، وهو المذهب عند الشافعية ورواية عند الحنابلة حكاها أبوالخطاب. وحجتهم: (1) أن الرزق لا يكون إلا للمحتاجين، كما أن الإنفاق من بيت المال لا يجوز إلا فى المصالح، ولا مصلحة فى دفع الرزق للقاضى الغنى المتبرع. (2) أن عدم إعطاء الرزق على القضاء أبلغ فى المهابة له وأدعى للنفوس على اعتقاد التعظيم والجلالة لمقامه.
ثانيًا: أجر القاضى
اختلف الفقهاء فى حكم الاستئجار على القضاء بحيث يكون للقاضى أجر مشروط وليس رزقاً ممنوحاً على ثلاثة مذاهب.
المذهب الأول: يرى عدم جواز الاستئجار على القضاء، وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية والمالكية وهو المذهب عند الشافعية وإليه ذهب الحنابلة، وبه قال مسروق وعبدالرحمن بن القاسم بن عبدالرحمن: لا نأخذ أجراً على أن نعدل بين اثنين. وحكى فيه القرافى الإجماع فقال فى «الذخيرة»: «اتفقت الأئمة والأمة فيما علمت على تحريم الإجارة» أى على القضاء. وحجتهم: (1) ما ذكره ابن قدامة فى «المغنى» أن عمر بن الخطاب قال: «لا ينبغى لقاضى المسلمين أن يأخذ على القضاء أجراً. (2) أن القضاء من القربات والطاعات يختص فاعله أن يكون فى أهل القربى فأشبه الصلاة، ولأنه لا يعمله الإنسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة. (3) أن القضاء عمل غير معلوم القدر فلا يجوز أن يكون محلاً للإجارة؛ إذ يشترط لصحة الإجارة العلم بالمعقود عليه. (3) أنه إذا جاز للقاضى أن يأخذ رزقاً من بيت المال عند جمهور الفقهاء فهو لا يعنى جواز إعطائه أجراً. يقول ابن قدامة فى «المغنى»: «ولا يلزم من جواز أخذ النفقة جواز الأجرة بدليل القضاء والشهادة والإمامة يؤخذ عليها الرزق من بيت المال وهو نفقة فى المعنى ولا يجوز أخذ الأجرة عليها».
المذهب الثانى: يرى جواز الاستئجار على القضاء. وهو وجه عند الشافعية قال به القاضى حسين المروزى شيخ الشافعية فى عصره والمتوفى 462 هـ. وحجتهم: (1) أن القضاء من الأعمال الفنية المادية كالتعليم والتطبيب فجاز الاستئجار عليه، وليس من القربات المحضة كالصلاة والصيام، وتكون القربة أو الطاعة فى القضاء أو غيره من الأعمال المادية فى النية القلبية التى لا تأثير لها بين المتعاملين بحسب الظاهر. (2) القياس على الرزق، فإذا كان جمهور الفقهاء قد أجاز منح القاضى رزقاً يكفيه وأسرته الملزمة منه من بيت المال فلا مانع من إعطائه أجراً.
المذهب الثالث: يرى كراهة أخذ الأجر المشروط على القضاء، وهو قول ابن مسعود والحسن البصرى، واختاره الإمام أحمد فقال: «ما يعجبنى أن يأخذ على القضاء أجراً، وإن كان فبقدر شغله مثل والى اليتيم». وحجتهم: الخروج من الخلاف فى حكم الأجر على القضاء؛ خاصة أنه يمكن إكفاء القاضى بالرزق من بيت المال، فلا حاجة للأجر.
وقد اختار المصريون ما ذهب إليه القاضى حسين المروزى شيخ الشافعية فى عصره، الذى قال بجواز إعطاء القاضى أجراً مشروطاً فى عقد إجارة كامل الأركان يحفظ للمتعاقدين حقوقهما باعتبار القضاء عملاً فنياً مادياً وليس قربة أو منسكاً كالصلاة والصيام فى ذاته، وأطلقوا على هذا الأجر راتباً. وترك المصريون مسألة رزق القاضى لعدم مناسبتها للتطور الحضارى فى مصطلحات التعامل، كما ترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذين قالوا بعدم جواز إعطاء القاضى أجراً، ولم يرعبهم وصف القرافى له بأنه «إجماع الأئمة والأمة» ليس تشهياً أو تجرؤاً على قول الجمهور، وإنما لعدم قناعتهم بما ذكروه من دليل، أو لأنهم رأوا فى مذهب الجمهور المانع من إعطاء القاضى أجراً تعنتاً وحرجاً، ومهما كثر عدد القائلين به فهو لا يعطيه العصمة بل يظل صوابًا يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب. لذلك أخذ المصريون بالقول الفقهى الذى اقتنعوا بحجته ورأوا فيه التيسير، وإن كان القائل به فقيها واحدا محل ثقة مثل القاضى حسين المروزى المتوفى 462 هـ.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ALTAYEB HAMAD
ALLAH GHALEB 3LY AMREH