الأرض هى سكن الإنسان مدة حياته فى الدنيا، كما قال تعالى: «إنى جاعل فى الأرض خليفة» (البقرة: 30). والأرض ليست جنة وإن كان فيها من الخيرات ما يجعلها كالجنة، وهذا هو تكليف السماء للإنسان، كما قال تعالى: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (هود: 61)، أى جعلكم عمارها وبانيها، حتى إن القرآن الكريم ليخبرنا بأن نهاية الدنيا لن تكون إلا بعد إحياء الأرض وإعمارها على وجه يجعلها كالعروس المزينة، فقال سبحانه: «إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون» (يونس: 24).
وإحياء الأرض الموات حق للمواطن فى الدولة عند الفقهاء المسلمين وإن لم يكن المستصلح للأرض مسلما عند الجمهور؛ خلافا للشافعية الذين قصروا حق إحياء الأرض أو استصلاحها على المسلمين، وجعله الحنابلة لغير المسلمين حق انتفاع وليس ملكا. ويرى البلخى من أئمة الحنفية أن حق الإحياء أو استصلاح الأرض غير المملوكة لأحد يفيد الاختصاص بالاستغلال لا ملك الرقبة للمسلمين وغيرهم.
وإحياء الأرض عند الفقهاء يكون بإنشاء كل سبب للنماء مثل الغرس والحرث والسقى والبناء وحفر الآبار، أو بمقدمات أسباب النماء مثل تهيئة الأرض بالحفر أو بالتحويط أو تذليل الطريق إليها.
وحتى لا يحدث تعارض بين الناس فى إحياء الأرض غير المملوكة لأحد أو استصلاحها بما يسبب التنازع أو التقاتل فقد جاءت الشرائع السماوية بترتيب ما يعرف بنظام الملكية، وكان مما اتفق عليه أن ما يثبت لأحد من الناس لا يجوز لغيره أن يأخذه إلا بطيب نفس منه، وهذا ما يعرف بحماية الملكية الخاصة التى أكدها القرآن الكريم فى عموم قوله سبحانه: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل» (النساء: 29)، كما أكدها النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع، وذلك فيما أخرجه الشيخان عن أبى بكرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام».
ويدخل فى حكم الملكية الخاصة – من جهة الحرمة - الملكية العامة لمعينين مثل مال خزانة الدولة أو القبيلة أو النقابة. أما الأموال والأراضى التى لا يملكها أحد بعينه أو بصفته مثل كنوز الأرض والبحار من المعادن والبترول، ومثل الأراضى الصحراوية والغابات التى لم يحزها أحد – قبل ظهور الدولة الحديثة وفرض سلطانها على كل ما لم يحز – فهذا ما يعرف فى الفقه الإسلامى قديما بالموات التى تحتاج إلى إحياء أو استصلاح.
وقد اختلف الفقهاء المسلمون فى مدى شرعية استباق الإنسان إلى شىء من هذه الأموال والأراضى الموات لحيازتها من أجل إحيائها وتعميرها والاستفادة منها قبل الدولة المدنية الحديثة، وذلك على مذهبين فى الجملة. حيث ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز استباق المواطن فى نظرهم إلى إحياء الموات دون الحصول على إذن الحاكم أو السلطات الحكومية اكتفاء بإذن الشارع أى الدين، وذهب الإمام أبوحنيفة إلى منع المواطن من الاستباق إلى إحياء الأرض الموات دون الحصول على إذن صريح من الإمام أو السلطات الحكومية، وذهب المالكية فى المشهور إلى التفصيل بين الموات القريب من العمران وبين الموات البعيد عن العمران، كما سنوضح ذلك فى المذاهب الثلاثة التالية:
المذهب الأول: يرى جواز استباق كل أحد من المواطنين إلى الأرض الموات لإحياء ما يمكن إحياؤه منها دون إذن الحاكم أو السلطات الحكومية، وفى سبيل ذلك فإن المستصلح للأرض الموات يملك حق الاختصاص بما يحييه. وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة وأبويوسف ومحمد من الحنفية وبعض المالكية فى قول.
المذهب الثانى: يرى منع الاستباق إلى الأرض الموات إلا بإذن الحاكم أو السلطات الحكومية مطلقا، وإذا فعل ذلك بدون إذن رسمى كان معتديا، ولا حق له فيما وضع يده عليه، وهو قول الإمام أبى حنيفة.
المذهب الثالث: يرى التفصيل فى الأرض الموات بين القريب من العمران والبعيد عنه، فإن كان الموات قريبا من العمران فلا يجوز إحياؤه إلا بإذن الحاكم، وإن كان الموات بعيدا عن العمران فلا يشترط إذن الإمام. وهو مذهب المالكية فى المشهور. ويرجع الخلاف بين الفقهاء فى ذلك إلى سببين.
السبب الأول: تعارض الاحتمالات الواردة على صفة القول بالإحياء فى الأحاديث؛ لأن قول النبى صلى الله عليه وسلم بشأن هذا الإحياء قد يكون بصفته نبيا، وقد يكون بصفته رئيسا أو حاكما، ومن ذلك ما أخرجه أبوداود والترمذى وحسنه عن سعيد بن زيد، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من أحيا أرضا ميتة فهى له»، وأخرجه البخارى عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها». وأخرجه البيهقى عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «العباد عباد الله والبلاد بلاد الله فمن أحيا من موات الأرض شيئا فهو له». وأخرج إسحاق الحنظلى بسند ضعيف عن حبيب بن سلمة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه»، وأخرجه الطبرانى من حديث معاذ والبيهقى بإسناد ضعيف.
فمن نظر إلى صفة النبوة فى مضمون الحديث: «من أحيا أرضا ميتة فهى له» لم يشترط إذن الإمام فى الإحياء اكتفاء بإذن الشارع. ومن نظر إلى صفة الإمارة أو الرئاسة فى قائل الحديث اشترط إذن الإمام فى الإحياء، خاصة إذا انضم إليه حديث: «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه».
السبب الثانى: تعارض المقاصد الشرعية المتعلقة بتنصيب الإمام لتنظيم الحقوق وقطع مادة النزاع بين الناس، مع المقاصد الشرعية المتعلقة بإحياء الأرض الموات لتعمير الأرض وتوفير فرص العمل بين الشباب. فمن لم ير هذا التعارض لم يشترط إذن الإمام فيه، ومن رأى هذا التعارض اشترط الحصول على إذن الإمام قبل الإحياء.
وقد اختار المصريون قول الإمام أبى حنيفة الذى اشترط لمشروعية إحياء الأرض الموات موافقة الإمام أو الحكومة؛ خاصة فى ظل الدولة المدنية الحديثة التى افترضت ملكيتها لكل الأموال والأراضى التى كانت توصف بالمباحة أو الموات. وترك المصريون مذهب الجمهور الذى يرى استحقاق المواطن فى ظل الفقه الإسلامى أن يستبق إلى الأموال المباحة أو الأراضى الموات من تلقاء نفسه دون إذن الإمام أو الحكومة، ولم يكن تركهم لقول الجمهور هنا لضعفه أو فساده، كما لم يكن أخذهم بقول أبى حنيفة لانفراده بالصحة، وإنما كان الاختيار بحسب المصلحة المتبادرة؛ لاعتقادهم بصحة العمل بالقولين لصدورها من أهل الذكر، ولا عليهم إن وجدوا المصلحة قد تغيرت إلى القول المخالف؛ لأنهم بذلك يكونون قد تحولوا من فقه إلى فقه، ومن حجة شرعية إلى حجة شرعية أخرى، وليس كما يزعم البعض أنهم يحكمون الهوى؛ لأنهم ما خرجوا فى الجملة عن قول الفقهاء المتخصصين، وصدق الله حيث يقول: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» (النحل: 43).
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
السيدالشافعى
تحية للكاتب واقتراح
عدد الردود 0
بواسطة:
ابراهيم ذكى
الافتراء على الله
عدد الردود 0
بواسطة:
ابراهيم ذكى
الافتراء على الله
عدد الردود 0
بواسطة:
رامى
هل يجوز تجسيد الانبياء فى الاعمال السينمائية؟
عدد الردود 0
بواسطة:
ابراهيم ذكى
شكرا للاستاذ احمد حسين