ضحكات متقطعة مجلجلة أطلقها الخديوى "توفيق" لما سمع بسقوط "عرابى" بين يدى قوات الاستعمار الإنجليزى، إنها لحظة الانتقام من الضابط الذى صفعه بعبارته الخالدة: "لقد خلقنا الله أحرارًا، ولن نستعبد بعد اليوم"، على مرأى ومسمع من قناصل الغرب الذين كان الخديوى المستأسد على الشعب، مستأنسًا خنوعًا أمامهم.
ويتذكر الخديوى دخول "عرابى" ساحة قصر عابدين على حصانه متوشحًا بسيفه، لإملاء مطالب الحركة العرابية، فيحس نارًا ذات لهب فى صدره، فيشهر قبضته فى الهواء: سأعدمه حتى يكون عبرة لمن يعصى "أفندينا".
وحتى يغطى "أفندينا" سوءة جريمته أوعز إلى حاشيته، أو بتعبير زماننا نخبته، شن حملات تشويه صحفية، لاتهام الضابط الثائر بأنه تحالف مع الغرب ضد وطنه، وأنه وراء جرائم قتل الأجانب بالإسكندرية، لإعطاء الذرائع للأسطول الإنجليزى لضرب المدينة الساحلية، فإذا وقعت الواقعة توارى ورجاله.
ورغم أن عميد الجالية السويسرية بالإسكندرية "جون نينه" شهد بما رآه رأْىَ العين، من أن الجنود المصريين "كانوا يقاتلون وكأنهم أرواح أبطال الأساطير، يخرجون من وسط النيران، فيصدون العدوان حتى الرمق الأخير إلا أن أحدًا لم يصغِ، فقد ضاع صوت الحق، وسط ضجيج البهتان وضوضاء الأكاذيب".
والغريب أن رموزًا، منهم الزعيم مصطفى كامل، والمؤرخ عبد الرحمن الرافعى، وكذا أمير الشعراء شوقى- الذى كان ربيب الأسرة العلوية- دقوا الدفوف فى زفة الهجوم على عرابى، ويُنسب لشوقى شعر فى هجائه يقول: "عرابى كيف أوفيكَ الملاما/ جمعت على مذمتكِ الأناما/ قتلتَ المسلمين بغير حقٍ/ وضيّعتَ الأمانةَ والذماما".
وطبيعى أن يركب أعداء الثورة العرابية الموجة، ليس لتصفية عرابى بشخصه، وإنما لإجهاض الثورة ذاتها، وإطفاء جذوة النار المقدسة، التى اشتعلت فى وجدان الأمة، عبر التحالف مع الخديوى والاستعمار معًا، ضد طموح الشعب لأن ينال حريته، وينعم بثرواته فى وطن صارت الطبقية تقسّم أبناءه إلى "ناس تعرق من أجل الرغيف، وناس تعرق فى لعبة التنس"، كما تقول أغنية دينا الوديدى البديعة.
وانتهت المؤامرة كما خطط الخديوى، وأصبح الضابط الثائر شيطانًا رجيمًا، وليس ثمة من يجرؤ على الدفاع عنه، فالأكاذيب حين تغدو "شعبوية" يصبح صعبًا هدمها، أو كما يقول الكاتب الأمريكى الساخر مارك توين: "إن خداع الناس أسهل كثيرًا من إقناعهم بأنهم مخدوعون".
الخديوى الخائن، الذى اعتبره الإنجليز "كنزًا استراتيجيا" فأسبغوا عليه الحماية ساعةَ، خرج من قصره بالإسكندرية، واستقبلوه بمحطة السكة الحديد بالقاهرة، مضى يمعن تنكيلًا وحشيًا بالزعيم الوطنى، فكان يرسل تابعه "إبراهيم أغا" إلى الزنزانة ليلًا، فيكيل له الشتائم، ويبصق فى وجهه، وهو يرسف فى قيوده غير قادر على الرد.
أجهز الخديوى على عرابى الثائر معنويًا، ولم يعد إلا أن يراه متدليًا من مشنقة، إنه يعد الساعات للمحكمة التى كانت طوع بنانه، ويؤتمر قضاتها بما يشاء، سألقنه ومن معه درسًا أن مآل الخروج عن أفندينا هو الخسران المبين.
لكن.. ليس ما كل ما يتمناه الخديوى يدركه، فالرجل لم يعد الواحد القهار بأرض مصر.. أصبح "عروسة ماريونيت" يحركها الاستعمار متى يشاء، كيفما يشاء، وقد رفض الإنجليز إعدام عرابى.. المحتل يرفض إعدام الرجل الذى دوّخه، والحاكم الشرعى للبلاد يريد قتله.. أليست تلك مفارقة؟
كانت "العرابية"، باعتبارها حركة تحرر، قد حازت إعجاب أحرار الغرب، ومنهم السياسى والكاتب الإنجليزى مستر "بلنت" الذى عمل على تأليب الرأى العام فى بلاده ضد جرائم بنى جلدته ضد المستعمرات، فرأت الحكومة الإنجليزية أن إجراءً انتقاميا، سيؤدى بالضرورة إلى تآكل الجبهة الداخلية، ومن ثم قررت نفى "عرابى" إلى جزيرة سيلان، فمكث عشرين عامًا، حتى عاد إلى وطنه، شيخًا أدركه الوهن مشتعلا رأسه شيبًا ضعضعته الغربة.
ولم يحتفِ المصريون بعودة الثائر، ويقال إن الشباب كانوا ما أن يعرفوا بأنه يقتعد كرسيه بأحد مقاهى وسط البلد بالقاهرة، حتى يتوجهون إليه فيرجمونه بالحجارة، وهو يبكى جراء ظلم ذوى القربى.
بعدئذٍ بنحو عشر سنوات، وتحديدا سنة ألف وتسعمائة وإحدى عشر، رحل عرابى، وكتبت "الأهرام" تشفيًا: "مات عرابى وانتهى العرابيون تاركين لأمتهم الغصة والحسرة".. وما هى إلا ثمانية أعوام حتى اندلعت ثورة ألف وتسعمائة وتسعة عشر، التى استلهمت صيحته الشهيرة "لقد خلقنا الله أحرارا"، وبعدها بثلاثة وثلاثين عامًا ردت ثورة يوليو للثائر المظلوم اعتباره
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة