قد يحار القارئ فى الرابط بين اسم المقال واسم العامود فكيف يربط اسم عَلم باللغة والمفردات السياسية، لكن بتمعن قليل ستتبدد تلك الحيرة حين يلاحظ أن أعلاما عدة قد أثروا وأثروا الحياة السياسية بما أسهموا به، سواء بشكل مباشر أو بامتداد لهم لا يقبل الفصل، ولعل هذه السيدة تحية عبدالوهاب هى واحدة من تلك العظيمات اللاتى يظلمن من مؤرخى الواقع الإنسانى الذين لا يلتفتون إلا للرجال باستثناءات قليلة فرضت وجوب ذكرها، وقد يذهب ظن القارئ المتعجل أن الكاتب سيذهب للكتابة حول سيرة سيدة حياته وهو ما لن يتحقق، لأن ما أنجزته هذه العظيمة لا تحتويه سطور مقال أو مجرد كتاب، وإنما يشار لصنوف بسيطة منه، فكيف لما يحمله القلب أن يختزل على أوراق!!
يبدأ الكلام بأم حرصت على تعويض ابنها عن غياب أبيه لظروف العمل والنضال والسياسة بأن تكون بانيا لحياة هذا الولد، ولن تخلق له من روافد الأبوة ما لم يتح لغيره ممن كانت نشأتهم بين جنبات أسرة استقرت بها الظروف، وكانت هى بذاتها أول تلك الروافد لتعلمه فضائل المواجهة، وتزرع بداخله احتقار المواربة والهروب، إلا أن أجَل ما فعلت هو أن سمحت له بأن يتعلم ويتعلق بأكثر من أب فى حياته، وبطبيعة الحال كان لأخواله حق السبق.. فهذا خاله عبدالوهاب طالب الزراعة عند ميلاد الكاتب الذى يتذكر كيف كان يدربه خاله على قيادة الدراجة وينصحه كلما سقط أن يعاود المحاولة وألا يهلع عند رؤية الدم يقطر من جرح بجسده، فكما جرح سيلتئم، وبالتجربة والخطأ سيصل لمراده، وهذا خاله نجيب طالب الكلية البحرية آنذاك، والذى لا تذهب الابتسامة عن وجهه القوى يعلمه عدم الخوف من أمواج البحر التى تتلاطم عند الشاطئ، لأنه كلما ابتعدنا عن شاطئ قريب بقدر ما يعلو الموج بقدر ما نعلو معه ونقترب من أفق عريض.. أو خاله محمود طالب الديكور الشاب الذى لا يكف عن الحديث حول الفنون التشكيلية، ولا يمل من سماع سيد مكاوى والمهووس بالقاهرة القديمة، فعلم كاتب السطور حب الجمال. نعم اسمها «تحية» تلك السيدة التى سلمت عقل ابنها الذى لم يتجاوز 12 عاما إلى المفكر الشيوعى خالد الذكر مصطفى طيبة ليعلمه أن الفقراء هم مِلح الأرض وأن السيدات ورودها وأن البسمة على وجوه الأطفال هى روح هذه الحياة، كما تركته لشيخ الكُتاب وإمام المفكرين محمد عودة ينهل من مكتبة منزله، ويستمع لمناقشات فيليب جلاب، وجلال رجب، وعلى نويجى، ونبيل الهلالى، وطالما أخذته «تحية» لمقر نقابة الصحفيين بالقاهرة ليشهد صعود كامل زهيرى نقيبا رسميا فى زمانه، ويتعلم منه كيف يحب الرجل امرأة حياته وهو يراه يرسم وجه زوجته «خديجة قاسم» كلما سرح بأفكاره بعيدا، هى «تحية» التى أخذت كاتب هذه السطور لزيارة سيدنا الحسين وحضور مولد السيدة زينب، ليتعلق قلبه بمحبة آلِ البيت، وينخرط فى حياة الناس الذين لم تعلمه أن يفرق بينهم بلون أو بجنس أو بدين، فقد سمحت له بقراءة الإنجيل والتوراة المتواجدين بمكتبتها الخاصة إرثا عن أبيها العالم الأزهرى، كما أورثت ابنها شغف الإخلاص للقضية العربية منذ أن كاد يفقدها حين حوصرت فى طرابلس هى وياسر عرفات وغيرهم على يد قوات الاحتلال.. هى من علمت الكاتب قيمة الكتاب وألقمته صنعة الكلام، وأشبعته بحب الإخلاص، ودفعته للبحث عن خلاص. ليس اسمها (أم يوسف) فهو النكرة فى حضورها وهى الحاضرة فى حياته التى بدونها لم يكن لوجوده أصل اسمها تحية عبدالوهاب.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة