محمد مصطفى موسى

زهرة والدرويش

السبت، 15 مارس 2014 08:57 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أعمى من لا يرى ذاك السنا، الذى ينسال إذا تفتح شباكها، فترمق المارة بعينين تنام فى إحداثياتهما بحيرات العسل، ويفترُّ ثغرها عن ابتسامة تقدح فى أعصاب الرجال شرر النيران، وتفجر براكين الغيرة بقلوب النساء.

عبارة قالها "أنور المنصورى" البقال الستينى، وعيناه الضيقتان تتعلقان بشباك "زهرة" بالطابق الثانى، وإلى جواره افترش "منصور الدرويش" الأرض، بين أصابعه القذرة لفة من خيوط الصوف، يتدلى طرفها متصلا بلفة ثانية على الأرض، ويداه تدوران بعصبية آلية، فتلف الخيط على الأولى، وهو يرسل نظرات زائغة نفاذّة نحو الملقاة أرضًا، فإذا عمل بعض ساعة، وجد ما بين يديه أكبر، انقض على الأخرى، فأخذ بنفس الحماس والوتيرة، يلف الخيط عليها، وهكذا دواليك يقطع الساعات يروم الكمال، فلا يبلغه حتى ينام مُنهكًا فى مكانه.

وكان الدرويش بين فينة وأخرى، ينتفض واقفًا فيهتف بصوته الجهورى بقوله تعالى: "وهو الذى ينزل الغيث بعدما قنطوا"، فتفتح "زهرة" شباكها، فتبعث نظرة عذبة، فيُحنجّل فاتحًا ذراعيه كطائرة شراعية، ثم ينشد شعرًا مجهولًا كاتبه أو بالأحرى " قارضه ": "كريمٌ بالعبادِ له عطايا.. ولا ينسى الشقى إذا أنابا.. وأقصدُ وجههُ كلى ذنوبٌ.. فيروى ظمأتى سُحبًا رُضابا.. ويعلم أننى صبٌ فؤادى. . عشقت النور، كابدتُ العذابا".

مستديرة الوجه كبدر مليس الضياء، خداها ثمرتا برقوق شربتا ماء الورد ورضعتا أشعة الشمس، فمنحتها حمرة عفيّة، لها أنف إغريقى مستقيم، وشفتان مكتنزتان شهيتان، وشعر كستنائى غامق، تتموج أطرافه تموجات غجرية، متناقضًا مع قسماتها الوادعة، فإذا الصورة الكلية، خليط جهنمى ملائكى، من الفتنة والطفولة.. من الغواية والتصوف.. من الضلال والرهبنة.
كانت "زهرة" شاغلة الدنيا، فى ميدان المنشية بالإسكندرية، الشباب يحلمون بنظرة منها، والشيوخ يلعنون الزمن الذى لم يترك لهم أمام فتنتها إلا الأسى على ماضٍ غبر، والنساء يبتهلن للسماء ألا تصيب سهام لحظها أزواجهن، فيهيمون كمن يقتفى "الندّاهة" فى الحكايات الشعبية، ومعظمهن يُمصمصن شفاههن إذا يرددن حكاية "منصور الدرويش" الذى يروى أنه كان تاجرًا ثريًا، فخسر عقله يوم تلصص ذات ليل عليها من سطح مجاور، فرآها تتجرد من ملابسها، فمسّه عفريت من الجن يهواها، وكاد يموت لولا أن أقيم أذان الفجر فلاذ العفريت بالهرب.

المثقفون من رواد مقهى الميدان الرئيسى رفضوا الخرافة، وحملوا المعاول لهدمها، لكن أحدًا لم يعرهم أذنًا، كانت الأكذوبة اتسعت نطاقًا، تؤججها باستمرار نيران الفتنة، التى تتجاوز المنطق والمألوف، وتحترف خرق القوانين.

ورغم الخرافة، هام الشباب توقًا وولعًا، وتقدّم للفاتنة راغبو زواج من أثرى تجار زنقة الستات، وشارعى النصر وفرنسا، لكنها ظلت ترفض بإصرار، حتى بلغت الثامنة والعشرين، فاكتست الحلاوة بنضج، وانصهر الجسد العبقرى، على صهد المواسم المتتابعة.. ثم فجأة أقيم حفل زفافها، على "ميسرة" صبى المعلم "السوهاجى" تاجر العملات المعروف، ذى اللحية القصيرة، والنظرة الذئبية الجائعة.

هذا الوضيع يحظى بتلك الملكة؟.. له فى خلقه شئون، هتف "المنصورى البقال" ذاهلًا، وهو يسحب بغضب دخان نارجيلته، ولوى "عبده العطّار" بوزه، ولاذ "مصطفى المحامى" بزاوية من المقهى، وعيناه تنطقان بالحيرة الذبيحة.

على أن الزواج لم ينه الأسطورة، فقد بقيت العيون تلاحق "زهرة"، فاشتعلت علاقتها بمسيرة الذى كان جلفًا فظًا غليظ الفطرة، يدرك وضاعة شأنه، فسعى لتعويض دونيته بإذلالها، حتى صار الميدان بأسره، يسمع صراخها إذا انتصف الليل، كل ليل، ومع الوقت تحول الصراخ إلى شتائم نابية، لم يكن أحد يتخيل أن تخرج من شفاهها الأرستقراطية.
وغاضت الملاحة فى سحائب الأسى الأسود، وغرق الضياء الطاهر فى كدرة الحزن.. جفت "زهرة" الزهرة، وتيبس العطر بعروقها، حتى انتهت المأساة بدعوى طلاق للضرر، وتحررت "شاغلة الدنيا".. فاستعادت القلوب أشواقها، والنفوس أحلامها، وتعوذت النسوة بالله من اللعنة المحدقة.

لمدة عامين، أبعدت "زهرة" كل من يدنو لأسوارها، لكن ومثلما الزيجة الأولى، تزوجت فجأة من رجل غريب، يدعى "إبراهيم الأعسر" غامض يتجنب العلاقات الاجتماعية، ترتسم على وجهه صرامة صخرية، دمث الأخلاق تحقيقًا، لم يفتعل مشكلة واحدة مع ساكن من السكان، فتوّسم الناس أن تلتمس المسكينة معه السلوان، لكن "لعنة جمالها" طاردتها فإذا الزوج الثانى كالأول، يغار عليها بجنون، يضربها بصورة أشد وحشية، إذا انتصف الليل، كل ليل، لكن المفارقة أن "زهرة" لم تكن ترد بشتائمها النابية التى تدربت عليها جيدًا فى كنف "ميسرة"، الأمر الذى دفع البعض إلى إطلاق عبارات الغمز واللمز، عن استمتاعها بالإساءة من الرجل الجديد.

وأصبح عاديًا أن تخترق مسامع رواد المقهى، صرخات "زهرة" ألمًا، ومعها شتائم الزوج، وصار مألوفًا أن يهتف "الدرويش" باكيًا: "ما بين الصبابةِ والنحيبِ.. إلامّ الهجرُ منكَ أيا حبيبى.. تُراقُ لك الحنايا والمآقى. . وتضربُ قلبى أسواطُ اللهيبِ.. فلو تدرى نزيفى واحتضارى.. وذوبانى كقطراتِ الطُيوبِ.. وإحراقى بخورى بكلِّ ورعٍ.. لما أرضاكَ قتلى يا طبيبى".

وذات صباح من شهر "طُوبة" القبطى حيث المطر لا ينقطع، والريح صرر عاتية، استيقظ الناس فإذا جثمان "الأعسر"، غارق فى الدماء، والماء والوحل، على رصيف زقاق ضيق، وأفاد تقرير الطب الشرعى، بأن مجهولًا ضربه بقطعة من حديد على مؤخرة رأسه فتهشمت..ودارت الشبهات حول "الدرويش العاشق"، ورجح البعض أن تكون "زهرة" أوعزت إليه بالجريمة، ولكن الحادثة قُيدت ضد مجهول.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة