أروى لكم من خلال هذه السطور تجربتى الشخصية من وجهة نظرى المتواضعة اتجاه شخص توسمت فيه يومًا أنه المنقذ، وكيانًا شهدت لحظة ميلاده الأولى، بل شاركتُ فى وضع حجر الأساس فيه حتى تهاوى نصب عينى، وبات هشيمًا تذروه الرياح.
بعدما قامت ثورة يناير ٢٠١١، وتحطمت أسطورة النظام العتيد الذى لا يقهر ( مع بعض تحفظاتى الآن بعد مرور ثلاثة أعوام على عدة أمور لم تكن آنذاك واضحة الملامح، كما لم تكن قد اكتملت صورة المشهد ككل فيما يخص إدراكى للموقف)، شعرت وقتها مثل كثيرين غيرى بمشاعر مختلطة مختلفة لم أختبرها من قبل، ولم أكن لأحلم بها حتى.
فمنذ نعومة أظافرى وحتى هذه المرحلة العمرية التى وصلت إليها بما تحتوى عليه من نضجٍ كافى، لم أشهد حدثًا ذو قيمة تُذكر، فقط كنت أشعر برتابة الحياة وإحباطاتها المتلاحقة، والتهاوى المستمر فى كافة مناحى الحياة فى مصر، كنت دائمًا ما أحلم بأن أعاصر فى مصر حدثًا جلل .. فلطالما تمنيت أن أكون ممن عاصروا ثورة يوليو وما قبلها من كفاح ونضال المصريين فى مواجه الاحتلال الإنجليزى والحكم التركى، أو أن يسعدنى الحظ فأرى نصر أكتوبر العظيم، أو غيرهم من الأحداث التى عرفت عنها فقط من خلال كتب التاريخ، لذا فقد قررت أن أشارك فى بناء وطنى الجديد وليد الثورة، إيمانًا منى بأن مصر الجديدة تنظر بعين الأم الحنون لكل أبنائها الغائبين المُغيبين الذين افتقدتهم وافتقدوها لسنوات طويلة، آنذاك شعرت بأنه قد آن الأوان لينتفض الجميع ولا يبخل بجهد ولا وقت من أجل وطن جديد و مختلف فى كل شىء.
وكان الدكتور (محمد البرادعى) الوافد الجديد بروح الثورة والتغيير رمزًا ومثل بالنسبة إلى قطاع ضخم من المصريين، وأنا منهم، وكانت له من الثقة والمصداقية ما لم يكن لكثيرين غيره، لذا فعندما طُرِحت فكرة تأسيس حزب تحت زعامة البرادعى ليجمع شتات شباب الثورة المتناثر هنا وهناك فى عدة حركات وائتلافات صغيرة لا تجمعها أفكارًا أو منهجًا موحدًا، مما ساعد على نجاح الإخوان المتربصين بالمشهد المدفوعين بمخطط دولى كبير للاستيلاء على الحكم فى مصر باستغلال هؤلاء الشباب الأبرياء الحالمين بالتغيير اللذين ضحوا بأرواحهم فداءً للوطن، كان هذا الحزب المزمع تأسيسه آنذاك بمثابة بارقة أمل جديدة انطلقت لتضئ من جديد عتمة الإحباط الذى تسلل إلى نفوسنا بعد تمكن الإخوان من السلطة .. وبحماس جارف لم يصادفنى من قبل كنت أول من حرر توكيلا لتأسيس حزب (الدستور) الذى كان بالنسبة لى حزب الثورة المنشود.. قررت أن أشارك فى بناء كيانًا كنت أظن أنه مثاليًا وأعمل بكل ما أوتيت من جهد ووقت تبعًا لظرفى الخاص كزوجة وأم ..كان الأمل كبيرًا والحماس والرغبة فى إعلاء شأن هذا الكيان أكبر.
وكان حفل التعارف الأول بعد جمع توكيلات المؤسسين فى أمانة ٦ أكتوبر والشيخ زايد، حيث بدأت هذه الأمانة تحديدًا بالعمل الجاد قبل إشهار الحزب رسمياً بحوال ثلالثة أشهر، وقبل أن تكون هناك أية مقرات أخرى بما فيها المركزية ... وقد أسعدنى الحظ أن أكون ضمن مجموعة العمل الأكثر حماسًا وإخلاصًا يتناسب بل ربما يفوق حماسى الجارف .. التقيت بمجموعة فريدة من نوعها من الزملاء والزميلات على كل المستويات، من إخلاص ووطنية ورغبة صادقة خالصة فى العمل الجاد بكل ما تحمله هذه الكلمات من معنى ... قدمت الأمانة التى أصبحت حديث الحزب كله على مستوى كافة المحافظات نموذجًا رائعًا فى كل شىء، فقد تمت هيكلة الأمانة إداريًا بنظام لا مركزى، وتم تشكيل اللجان وتسكين الأعضاء بها كل حسب تخصصه وتناسبه مع طبيعة عمل اللجنة، وبدأ العمل الدؤوب مغلفًا بحالة فريدة من المحبة والصداقة والتعاون والمنافسة النبيلة الخالية من الأحقاد، كنا جميعًا نعمل من أجل مصر من خلال هذا الكيان الذى وضع كل منا حجرًا صغيرًا، فى بناءه حتى قامت له قائمة، وبانت له ملامح تبعث على التفاؤل من جديد.
أما أنا فقد انضممت للجنة الإعلامية التى تتناسب مع خلفيتى وعملت بحماس لم أكن أتوقع أن أصل إليه من قبل، تمامًا مثلما يشعر المرء بسعادة أن يرى وليده يشب أمام عينيه حتى يخضر عوده وتنفتل عضلاته..وبعد أقل من ثلاثة أشهر نظمنا مؤتمرًا ضخمًا تحت رعاية أمانة أكتوبر زايد كان حديث الساعة على مستوى الوسط السياسى ككل، وقد أُطلق على أمانتنا وقتها (( قاطرة الحزب)).
لا أنسى أبدًا أن أتذكر بكل الخير وأترحم بكل الأسى والحزن على شخص عزيز علينا جميعًا الأستاذ (شعراوى عبد الباقى) أمين الأمانة وقائدها المغوار، صاحب الفضل الأول والأهم فى ريادة أمانة أكتوبر للحزب كله فيما بعد هذا الذى تبرع بمكتبه كمقر مبدئى للأمانة، وبذل جهدًا ومالاً من أجل أن نصل إلى ما وصلنا إليه .. ولكن عادة ما تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن.
فسرعان ما تسللت الأيادى الخبيثة والنفوس المريضة بعدما تم إشهار الحزب رسميًا وأصبح له قيادات معينة، وليست منتخبة مثلما قدمت أمانتنا نموذجًا فى هذا الشأن .. وكالعادة المعتادة التى لم تخلصنا منها.
طموحاتنا الكبيرة ولحماسنا الشديد، دبت الخلافات على المناصب والتناحرات على الكراسى فى أمانات الحزب المختلفة وعلى رأسها المركزية .. فسارع زميلى العزيز شعراوى بتقديم نموذج هيكلة أكتوبر لمسؤلى الحزب، وطالب ونحن جميعاً مؤيدون، بالهيكلة عن طريق الانتخابات النزيهة فى جميع أمانات الحزب، ومن هنا وبعد رفض معظم السادة الأفاضل من قادة الحزب الفكرة، وتمسك كل بمنصبه واستمات على كرسيه، وأبى يترك القافلة تسير بأمان، كانت هذه اللحظة الفارقة هى بداية النهاية لكيان لم يكد أن يستقيم و تتضح ملامحه حتى يبدأ فى التهاوى والسقوط، عندما فقد شعراوى حياته مدافعًا عن فكرته التى لم ولن تموت يومًا وسط غابة من أصحاب المصالح والمناصب و جامعوا الغنائم.\
توفى شعراوى متأثرًا بإحباطه فى صورة أزمة قلبية، وهو ينادى بالحق ويدافع بروحه عن كيان كان حتى لحظة فراقه للحياة هو أملها .. رحم الله شهيد كلمة الحق فى زمن علا فيه صوت الباطل، وانطوت صفحة النجاح وبدأت بعدها صفحة الفشل وتحول الحلم الجميل إلى كابوس مزعج.
عفواً فقد نسيتُ أن أذكر أن هناك رئيسًا للحزب لم يحرك ساكنا فى كل ما حدث، ولم يكن له أى رد فعل سوى السلبية المعتادة والتوارى عن المشهد ككل، فبعد أن بث الأمل فى نفوس الكثيرين ودفع بهم فى معترك الحياة السياسية التى لم تكن لديهم الخبرة الكافية ولا التجربة السابقة التى تؤهلهم لخوضها بنجاح، تركهم فى مفترق الطريق وقرر أن يكون رئيسًا شرفيًا فحسب هربًا من تحمل تبعات مسئولياته الجسيمة.
فترك هذا الكيان الوليد دون رعاية أو توجيه حتى أصابه الهزال والاهتراء قبل أن يشب على الحياة، ورغم كل تلك الظروف العصيبة والمشكلات الجمة التى باتت من أهم سمات الحزب بل أكثرها أهمية وأولها أولوية، دبت الصراعات والنزاعات بين شباب الحزب الرافض لهيمنة شيوخه وإعادة إنتاج نظام عفا عليه الزمان، النتيجة الحتمية هى تفكيك وإضعاف مفاصل جسد ضعيف أساساً لا يكاد يتعافى من مرض حتى يصاب بالآخر.
أما عن موقفى، فقد قررت الصمود والاستعانة بما تبقى لدى من صبر حتى أضع يدى بيد زملائى من الشرفاء الصامدين مثلى حتى ننقذ كيانًا حلمنا به وشاركنا فى بناءه معًا ظنًا منا بأننا (معًا سنغير)، وسينتصر الحق يومًا على الباطل ووفاءً لروح زميلنا الذى لفظ أنفاسه الأخيرة بيننا منادياً بإقامة الحق والعدل.
لا أنكر أبدًا أن هناك شرفاء مخلصين من قيادات الحزب حتى لا يعتقد أحد أننى أعمم الاتهام، لكن المشكلة الأساسية أنه حزب وصاحبه غايب.
ماعلينا فقد قررنا جميعًا نحن المهتمون بهموم الوطن أن ننحى الخلافات والصراعات جانبًا ونتفرغ لما هو أهم وأعظم ( الحشد لـ٣٠ /٦ ) والتنسيق مع القوى السياسية الأخرى كالمشاركة الفعالة فى توقيع استمارات تمرد لسحب الثقة من رئيس الإخوان محمد مرسى، فلا يجوز أبدًا أن نترك مصر فريسة للإخوان، ولقمة سائغة يلتهمونها بلا إنسانية ونحن غارقون فى أمور أخجل أن أذكرها ثانية فى مثل هذه الظروف العصيبة.
وبالفعل تحقق الهدف وقاد هذه المرة الشعب ثورته بنفسه وبمحض إرادته دون توجيهات أو قيادات، واستطاع بفطرته الطيبة أن يميز الخبيث من الطيب ويسقط نظامًا فاشيًا كاد أن يفتك بالبلاد والعباد، ويطمث الهوية المصرية التى لم ولن يقوى أى مستبد أن يعبث بها على مر الزمان بشهادة التاريخ.
عمت الأفراح واستعدنا مصرنا من الخونة وتشكلت الحكومة الانتقالية.. الغريب أننى لم أسعد أبدًا بتولى الدكتور محمد البرادعى منصب نائب الرئيس للعلاقات الخارجية على عكس ما كان متوقع أن يكون .. كان شعور القلق والحذر هو سيد الموقف، فكيف أثق بقدرته على تحمل تبعات ومسؤليات منصب شديد الحساسية فى توقيت أشد خطورة، وهو الذى لم يقوى يومًا على تحمل مسؤليات حزبه الذى أسسه وترأسه ثم تركه فى عمق الأزمة ورحل؟!
ثم توالت الأحداث كما نعلم جميعا وفاض الكيل من انتهاكات الإخوان وأنصارهم فيما يخص اعتصامى رابعة والنهضة، ولم يكن هناك بد من فضهما بالقوة التى دائمًا ما وقف البرادعى حائلاً دونها من خلال منصبه الرفيع بالحكومة!.
وما إن تم فض الاعتصامين بالقوة الرشيدة من قِبل الداخلية، والتعامل الحثيث مع العناصر الإرهابية التى تواجدت بالمكان بما لديهم من أسلحة كثيرة ومتنوعة، كما تم إخلاء الاعتصامين من النساء والأطفال والمسالمين منهم بمنتهى الحنكة، وما حدث دون ذلك ما هو إلا رد فعل الأمن اتجاه التعديات السافرة وإطلاق النيران من جانب المعتصمين الإرهابيين الغير سلميين على الإطلاق، وعلى الباغى تدور الدوائر.. وفى هذا التوقيت الحرج واللحظة الفارقة من عمر الوطن الممزق التى تستلزم من كل مصرى حق أن يقف موقف الرجال وينحى الخلاف جانبًا ويضع يده بيد أخيه لمواجهة إرهابًا داخليا وخارجيا بالإضافة إلى الضغوط الخارجية المستفزة و التدخلات السافرة فى الشأن الداخلى، أعلن البرادعى رفضة لفض الاعتصامين المسلحين بالقوة، وتقدم باستقالته من منصبه فى هذا التوقيت السابق وصفه!.
فى تلك اللحظة المخزية لم أجد ما أعبر به عن غضبى سوى خلع عباءة الصبر الذى تحليت به اتجاه تصرفات هذا الشخص الذى آمنت به يومًا، وظننت أنه المثل والقدوة التى كنت أحلم بها لمصر، وقررت التخلص من كل ارتباط يربطنى بكيان يحمل اسمه أو ينتمى إليه أو حتى كان يومًا ينتمى إليه، أعلنت موقفى من أول لحظة، وقمت بتجميد نشاطى بحزب الدستور بلا رجعة لحين الاستقالة المكتوبة، وكأن شيئاً لم يكن، فكما جاء وافدًا، كما رحل تاركًا أطلال حزبه هشيمًا تذروه الرياح.
لم أندم يوما على أكثر من عام قضيته فى هذا المكان الذى عرفت فيه كثيرا عن دهاليز ومطابخ العمل السياسى بما تحتوى عليه من مفارقات وتحايلات وموائمات وتربيطات لم أكن أعلم عنها شيئاً من قبل .. أما الإيجابيات فكانت أيضًا لا بأس بها، فقد تعرفت بأناسٍ شرفاء مخلصين محبين لمصر مصرين على النجاح والكفاح من أجل تحقيق الهدف، ربما هم أكثر إصرارًا منى لقدرتهم على المزيد من الاستمرار ومحاولاتهم المضنية للإصلاح الذى أظنه من وجهة نظرى بات صعب المنال، فما زالت الصراعات على المناصب قائمة والتربيطات مستمرة والرؤية مشوشة والأمل بعيد بعيد ...
قاتل الله المناصب والكراسى التى كانت وما زالت وستظل آفة النجاح فى أى كيانٍ كان فى كل الأزمان.
أخيرًا: دعوة خالصة من القلب، لعل أبواب السماء تكون مفتوحة، بالتوفيق لرئيسة الحزب المنتخبة، الدكتورة هالة شكر الله فى تلك المهمة الصعبة، وأعانها الله على جمع أشلاء حزب البرادعى سابقًا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة