من ذكريات طفولة بعيدة، أن أبى ابتاع زوجًا من العصافير، من الببغاوات الأسترالية، وهى طيور رشيقة خضراء، ومنها أصفر نادر، وأزرق أشد ندرة، وتسمى عربيًا، بالطائر الطيب، أو بالعاشق والمعشوق، ذلك أن الموت نفسه لا يفرق بين الذكر والأنثى، فإذا مات أحدهما، يصاب الثانى باكتئاب يدفعه إلى الانتحار بالامتناع عن المأكل والمشرب.
ومن صفات الأنثى، أنها قد ترفض إذا لم تمت بصدمة رحيل زوجها، حلول آخر محله، فالحب عندها للحبيب الأول، وقلبها ليس شقة مفروشة، أو بالأحرى عشًا مفروشًا.. لكن المثير أن خلف هذا الوفاء، وتلك الرومانسية، تكمن شراسة بربرية، قد تتسلح بها "الأرمل"، لو جىء لها بزوج، حيث تصاب بهياج عارم، فتضربه بجناحها، فتهاجمه فتنتش ريشه، فتنقر رأسه نقرات شرسة، حتى يسقط مضرجًا بدمائه، لم يرتوِ من نبع الهوى الرائق المشتهى.
ذاك أمر لم نعرفه فى طفولتنا، التى كان دخول الطائرين عليها، حدثا كبيرًا، فبالنسبة لى، فقد أشبعا شغفًا يلازمنى حتى الآن، لالتماس الجمال والحسن، فيما يبدع الفنان الأعظم، الله عز وجل، وقد كان منظرهما وتغريدهما مما يشيع الجمال.. الجمال الذى يغدق به الرحيم الكريم مجانيا، أما بالنسبة لأخى الأصغر، وكان فى نحو السادسة، فقد شرب السعادة حتى الثمالة، لتوليه الإشراف على شئون الطائرين، وتوفير غذائهما، والحقيقة أن أحدًا لم يفهم آنذاك، سر سعادته المفرطة، لكن لما بلغ المراهقة، فاقنى فئرانًا جبلية، وصقورًا، وأسماك زينة، وعقارب، وأفاعى، وضفادع، وسلاحف، وكلابًا وقططًا، ودخل فى بداية حياته العملية، مشروعًا خاسرًا لتسمين المواشى، فهمنا شيئًا من أمره غير المفهوم!
وجاء استقبال أختى للضيفين مختلفًا، إذ طلبت عدم إيداعهما غرفتها، لأن ريشهما يصيب جهازها التنفسى بحساسية، من أعراضها الجانبية، العطس حتى تحمر عيناها وتجحظان.
ولأن الحلاوة لا تخلو من النار، والحياة لا تعرف الاكتمال، وما من سعادة إلا منقوصة، كان موقف أمى بالهجوم علينا يعكر الفرح، ويكدر السعادة، فقد دأبت على جلد ضمائرنا، بذريعة أننا "توحشنا" فحبسنا مخلوقين، خلف قضبان، رغم أن الله، قد جعل لهما السماء وطنًا، والأغصان بيوتًا، حتى كادت تتهمنا بالستالينية والنازية والفاشية، لولا أن مداركنا الغريرة، لم تكن قد عرفت لهذه المفردات تأويلاً.
وأمام كلمات أمى الموجعة، وبعد تمحيص رأى وبحث، انتهينا إلى قرار بالضغط على أبى، ليجعل فرعًا جافًا من شجرة، معلقًا بالجدار، ليكون لهما بيتًا، فيفتح باب القفص، فيخرجا ويدخلا متى أرادا، وتقديرنا أننا منحناهما الحرية، من دون أن نفهم وقتها أننا استبدلنا السجن الصغير، بآخر أوسع قليلا، لكنه على كل حال ليس الحرية.
أول عهد الطائرين "بالسجن الجديد"، كان تراجيديًا.. ارتطما بالجدران مرات، وسقطا على الأرض مرات، حتى اشتدت الأجنحة، فنشأت الثقة بالنفس، فصارا يطيران بكفاءة مقاتل، يستعرض بطائرته فوق ميدان التحرير، حتى وقع حادث أليم، إذ انتهزت الأنثى أن شباكًا كان مواربًا، فاستجابت لنداء السماوات الرحبة، وفردت جناحيها إلى المجهول، كى تختبر "عيشة البراح"، من دون حسابات الخطر، أو دراسة احتمالات الوقوع بين براثن حداة، أو منقار صقر.
وذرفت مآقينا الدمع حارًا، وصببنا اللعنات على الخائنة ناكرة الجميل الجاحدة، وإزاء دموعنا، وخوفًا على الذكر الوحيد، المفجوع بفقد معشوقته، ابتاع أبى قفصًا جديدًا، فيه أنثيان وذكر، وبهذا نسينا "الهاربة".
لكن.. وفى صدفة تليق بالسينما الهندية، ولما كنا نتنزه بجوار المنزل، وقعت أبصارنا على "الهاربة" داخل متجر كبير، فهرعت فجلبت القفص فإذا هى تدخله بإرادتها "الحرة"، ونحن مندهشون بالدراما القدرية، وأمى تتمتم: عضها الجوع، لا حول ولا قوة إلا بالله، ليس أقسى قلبًا من الإنسان، يسخر المخلوقات لنزواته، وينزعها حتى من حق الحلم بالحرية، فإذا نشدت خلاصًا، وجدت العجز أسلاكًا شائكة، فتعود إلى "السجن المستقر".
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة