يوم الجمعة المقبل الساعة 12 يوم 12 شهر 12 يكون قد مرّ عشرة أعوامٍ كاملة على أول مظاهرةٍ لواحدةٍ من التجليّات العبقرية للشعب المصرى، الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية)، أو رفّة الفراشة كما أسماها أحمد بهاء الدين شعبان مُستحضراً نظرية (تأثير الفراشة) التى تتحدث عن التأثيرات المتواترة التى تنجم عن حَدَثٍ أول قد يكون بسيطاً فى حد ذاته لكنه يُولّد سلسلةً متتابعةً من النتائج والتطورات المتتالية، والتى يفوق حجمُها حَدَثَ البداية، وبشكلٍ لا يتوقعه أحد.. أو كما يقولون (إن رفّة جناحَىْ فراشةٍ فى الصين قد يتسبب عنها فيضانات وأعاصير ورياحٌ هادرةٌ فى أمريكا).
المخاض والولادة:
عقب إفطار رمضانىٍ بمنزل المهندس أبو العلا ماضى أواخر نوفمبر 2003، تطرّق الحديث بين حوالى ثلاثين من الأصدقاء من المهمومين بالشأن العام من التيارات المختلفة، إلى ما كان يجرى فى مصر من تهيئةٍ مُهينةٍ للتمديد لمبارك من ناحيةٍ وتوريث السلطة بعده لابنه جمال.. ونيطت مهمة وضع تصورٍ للخروج من هذا المستنقع للجنةٍ عقدت عدة اجتماعاتٍ فى مكتب المحامى عصام الإسلامبولى، وانتهت بعد شهورٍ من صياغة بيانٍ مُوّجهٍ للأمة من الحركة المصرية من أجل التغيير، يعلوه شعار (لا للتمديد لا للتوريث).. وقّع عليه حوالى ثلاثمائة فرد (بعضهم انسحب بمجرد شعوره بغضب النظام وبعضهم أصبح من أعداء كفاية).. تعددت الاجتماعات بعد ذلك وانضم إليها آخرون.. وعندما تناقش حضور أحد الاجتماعات حول اسم مختصر للحركة الوطنية من أجل التغيير، قال محمد السعيد إدريس (إحنا تعبنا.. إحنا زهقنا.. كفاية) وقال آخر (قرفنا) فابتدرهم جورح إسحق قائلاً (كفاية) واتفق الجميع على هذا الاسم المختصر.
عُقد الاجتماع التأسيسى لكفاية 22 سبتمبر 2004.. واتفق الحضور على أن تكون الوقفة أو التظاهرة الأولى فى ذكرى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان أمام دار القضاء العالى باعتبارها حصناً للقانون وحقوق الإنسان، ولمّا كان يوافق يوم جمعة فقد تقرّر تأخيره إلى الأحد الثانى عشر من ديسمبر.. كان الكثيرون متخوفين من قلة المشاركة، ولكن حدث ما لم يكن متوقعاً، إذ احتشد ما يقترب من الألف من الشخصيات المحترمة.
الفراشة تفعل الأعاجيب:
مثل رفة الفراشة، أحدثت كفاية موجات تأثيرٍ دائرية أخذت فى الاتساع بسرعة.. وكسرت حاجز الصمت والخوف.. وامتدّت المظاهرات من قلب القاهرة إلى الأقاليم.. واتسعت دوائر التأثير لتفرز حركاتٍ مستقلةً أخرى مثل جماعة 9 مارس لاستقلال الجامعات.. وحركة لا لبيع مصر لإيقاف نهب وتدمير القطاع العام.. وحركاتٍ فئوية عديدة من أجل التغيير (أُدباء وفنانين وشباب وصحفيين وأطباء ومحامين وفلاحين وعمال.. إلخ).. وأحدثت فرزاً صريحاً بين المعارضة الحقيقية والمعارضة المستأنسة المرتبطة بالنظام.. ورفعت سقف المطالب من مجرد الهمس ببعض الإصلاحات إلى تغيير النظام بالكامل ورفض أى محاولةٍ لتوريث الحكم.
كانت كفاية هى الداعم الشعبى لكثيرٍ من القوى التى هبّت من أجل مجتمعٍ ديمقراطىٍ حقيقى.. فوقفت إلى جانب تجمع مهندسين ضد الحراسة فى نضاله من أجل استعادة استقلال نقابة المهندسين.. ووقفت إلى جانب مطالب استقلال القضاء التى قادها نادى قضاة مصر وقت أن كان يرأسه صاحب المقام الرفيع المستشار زكريا عبد العزيز.. خُلاصة الأمر أن كفاية استطاعت أن تُعيد الاعتبار إلى الكفاح الديمقراطى السلمى القانونى بعد أن تمت مصادرته عبر عشرات السنين.
حركات كفاية العربية
ولأن مصر مؤثرةٌ فى محيطها العربى سواء فى مراحل النهوض أو لحظات الانكفاء، فقد تحوّلت كفاية فى فترةٍ وجيزةٍ من صرخةٍ مصريةٍ تحمل كل أشواق المصريين للحرية والتغيير إلى صيحةٍ ترددَ صداها فى أرجاء العالم العربى.. فخرج الجميع تحت شعارٍ واحدٍ هو (كفاية) وإن تعددت اللهجات.. ففى لبنان خرجت المظاهرات تحت شعار (كَفَى).. وفى ليبيا (خلاص).. وفى الأردن أعلن عددٌ كبيرٌ من طلبة الجامعات عن تشكيل حركة (قبّعت) بتشديد الباء وهى كلمةٌ تعنى نفاد الصبر.. أما الأردنيون من أصلٍ فلسطينى فقد أسموها (كبّعت) باللهجة الفلسطينية.. وفى اليمن تشكلت حركة (ارحلوا).. وحركة كفاية السودانية فى السودان.. وفى سوريا حركة (حاج) وهى الكلمة المرادفة لكفاية باللهجة السورية.
هياج الذئاب فى وجه الفراشة:
بوغتت السلطةُ بالظهور المفاجئ لكفاية، وارتبك رد فعلها فى البداية نظراً للقامات الكبيرة المحترمة التى ضمّتها التظاهرات الأولى والتى كانت بدون تصريح طبعاً.. إلا أن صبرها لم يستمر كثيراً.. وكانت ضربةُ البداية عندما صرّح الرئيس (البرىء) مبارك ساخراً (أنا أيضاً يمكننى تنظيم مظاهراتٍ تهتف مش كفاية!!).. بعدها ظهرت فعلاً حركة (مش كفاية) من بلطجية النظام ووقف أعضاؤها فى حماية الأمن على سلّم النقابة يهتفون (مش كفاية مش كفاية معاك يا ريّس للنهاية) وحركة (الاستمرار من أجل الازدهار) برئاسة رئيس أحد أحزاب أمن الدولة المتهم فى قضايا نصب واحتيال وضمّت بعض الفنانين والمصارعين.. وحركة (مصر الحرة) و(متعاونون) و(عايزينك) و(أحرار) و(جمال مبارك حلمٌ جميلٌ لبلدٍ أجمل).. وغيرها من الحركات الأمنية الهزلية التى مازجت بين تأييد استمرار مبارك والتبشير بابنه وريثاً.. وقد وَصف الدكتور عبد الجليل مصطفى هذا المشهد الهزلى بأنه مجرّد تشنجاتٍ حكومية أمنية، إلا أن هذه التشنجات الحكومية تزايدت وتحوّلت إلى صَرَعٍ كامل.. وعادت السلطة الغاشمة إلى وسائلها الحقيرة التى لم يكن أسوأَها اختطاف اثنين من مُنسقى كفاية وإلقاؤهم فى الصحراء (عبد الحليم قنديل عارياً وعبد الوهاب المسيرى كاسياً).. والاعتداء الفاجر على الدكاترة عبد الجليل مصطفى ويحيى القزاز وكريمة الحفناوى.. أما الآلاف من شباب كفاية المغمورين فقد صار الأمن يستخدم أقصى درجات العنف ضد هؤلاء المتظاهرين السلميين وتُلفَق لهم الاتهامات ويُحبسون.
وكان ما حدث يوم الأربعاء الأسود 25 مايو 2005 كاشفاً لموقف السلطة، إذ قام المئاتُ من بلطجية الحزب الوطنى المُنحّل المشحونين بالأتوبيسات الحكومية يقودهم أحد نواب المجلس المزوّر وعضو أمانة سياسات الأستاذ (البرىء) جمال مبارك تحت رعاية أمن (البرىء) حبيب العادلى بالهجوم على العشرات من أعضاء كفاية المحتجين سلمياً على الاستفتاء الذى كان يتم يومها على تعديل المادة 76 الشهيرة التى فصّلها الدكتور (البرىء) مفيد شهاب.. كان الاعتداء الهمجى وحشياً ووصل إلى حد محاولة اغتصاب الراحلة نوال على أمام وسائل الإعلام.. يومها أطلق الشاعر عبد الرحمن يوسف قصيدته كفاية التى يقول فيها:
آن الأوانُ فقم للعز منتصبا.. لا يعرفُ الحِلمَ من لا يعرف الغَضَبا
(كفايةٌ) قالها الأحرارُ فى بلدى.. والشعبُ يرسف فى أغلاله تَعَبا
(كفايةٌ) كبخارٍ من شواطئنا.. تَجّمع الخيرُ فيه فوقنا سُحُبا
ستُمطرُ السُحْبُ فوق الأرض عِزّتها.. وتُنبتُ الأرض من أبنائها عَجَبا
وقد كَنَسَ الشعب والتاريخُ هذا الهزْل وبقيت كفاية.. ولكن ما أحوجنا لإعادة رصد ما جرى لا سيما أن بعضاً من هؤلاء الذيول عادوا للمشهد هذه الأيام يُحدثوننا عن الوطنية بعد أن اختلقوا لأنفسهم تاريخاً غير ذلك الذى عايشناه معهم، معتمدين على آفة النسيان.
قبلةٌ على جبين نُبلاء كفاية:
بعد سقوط مشروعىْ التمديد والتوريث بثورة 25 يناير، كان رأيى وآخرين (وهو اجتهادٌ يحتمل الخطأ طبعاً) أن تحتفل كفاية بانتهاء مهمتها كحركةٍ لتحتل مكانها اللائق فى ذاكرة الأمة، أما أعضاؤها فيستمر عطاؤهم لمصر فى صورٍ أخرى.. وقد اختلف معنا بعض الأشقاء الذين استمروا حُرّاساً للحركة تحت نفس الاسم.. أقول لهؤلاء وأولئك كل عامٍ وأنتم بخير ومصر التى أحببتموها وبادلتكم حبّاً وتقديراً بخيرٍ وعافية.. وأحمد الله الذى مَنّ علىّ بالانضمام لهؤلاء النبلاء المجاهدين الذين تدّفأتُ بهم فى وجه الطاغوت.. كان كلٌ منهم قبل كفاية مستقراً فى حياته، وبعضُهم أعلامٌ فى مجالاتهم.. وعندما طَفَح الكيل وظهر الفساد فى البر والبحر والجو وبدا واضحاً أن رأس النظام مُصّرٌ على الاستمرار فى حُكمه المزوّر حتى آخر نَفَسٍ فى صدره ثم يُورّثه لابنه محدود الكفاءة والموهبة.. كان يمكنهم أن يكتفوا بمقاومة هذه الإهانة وهذا الفساد والاستبداد بقلوبهم وهو أضعف الإيمان.. لكنهم أَبَواْ أن يكتفوا بمصمصة الشفاه.. فخلَعوا أرديتهم وانتماءاتهم السياسية ولم يتدثروا إلا برداء الوطن.. وشكّلوا هذه الحركة النبيلة.. وفاجأوا مصر والعالم بهتافهم المدوّى.. لا للتمديد.. لا للتوريث.. وظلوا سنواتٍ يقفون بأعدادهم القليلة على سلّم نقابة الصحفيين، كفْرض كفايةٍ عن ملايين المصريين.. كانوا ينوبون عن شعبٍ بأكمله.. ووصَل الأمر أحياناً لأن يقف محمد عبد القدوس وحيداً حاملاً ميكروفونه فى يدٍ وعَلَمَ مصر فى اليد الأخرى.
فى البداية تعامل المصريون مع هذه الثُلّة المجاهدة بالدهشة.. ثم تحولت الدهشة إلى إشفاق.. وتحوّل الإشفاقُ إلى إعجاب.. ثم تحوّل الإعجابُ إلى تضامن.. وتحوّل التضامن إلى انضمام.. ثم احتضنتهم مصرُ وذابوا هم بين الملايين التى نزلت إلى الميادين لتخلع الطاغية.. ولتعصف رفّة الفراشة بقطعان الذئاب والكلاب.. جزى الله نُبلاء كفاية عن مصر خير الجزاء.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة