رغم أننى سجنت فى عهد الرئيس الأسبق مبارك قرابة ربع قرن كامل، ورغم أنه اعتقل سبعة من أشقائى كرهائن ومعهم أبى، رحمه الله، ومكثوا قرابة عام كامل، وتكرر ذلك مع بعضهم، ورغم القبض على قرابة أربعين من أقاربى خرج معظمهم سريعًا، وذلك دون أدنى جريرة أو ذنب سوى قرابتهم لى، فإننى لم أكترث مثل غيرى بسجن مبارك ولا بالإفراج عنه.. فلم أفرح بسجنه، ولم أحزن على براءته أو خروجه، لإدراكى اليقينى بأن الدنيا كلها لا تساوى شيئًا، وهى ليست بدار عدل ولا حق، وأن ما فيها من عدل وحق فهو نسبى وقليل جدًا بقدر قلتها وقدرها، ولو كانت الدنيا دارًا للحق والعدل ما أقام الله الموازين بالقسط يوم القيامة، ولاستغنى بأحكام ومحاكم الدنيا عن الآخرة، فمحاكم الدنيا تنظر ظاهر الأمور - إن نظرتها - لا بواطنها وحقيقتها وجوهرها.
إن الحكم النهائى والعادل والحقيقى فى أى قضية سيكون فى الآخرة وعند الله لا عند الناس، ولهذا كان الإيمان باليوم الآخر من أساسيات وأصول الإيمان فى كل الأديان.. لقد قتل بنو إسرائيل ألف رسول ونبى من أنبيائهم، ولم يحاكم أو يعدم من قتلوهم دون أن يشك أهل الإيمان من بنى إسرائيل فى أن الله سيعاقب من قتلهم ونكل بهم.
لقد عاهدت الله ثم نفسى ألا أشمت فى أى أحد حتى إن كان من ألد خصومى وأعدائى، رغم أنه ليست لى خصوم ولا عداوات، فالخصومات والعداوات يعرفها ويحسنها أهل الدنيا، أما الذين نفضوا أيديهم منها فهم يدعون لخصومهم وأحبابهم على السواء بالهداية والخير والرشد ولا يدعون على أحد، ويحبون الخير لكل الناس مهما أراد الآخرون بهم شرًا، وقد عاهدت الله أن أنأى بنفسى عن التشفى فى أحد، فالشماتة والتشفى يضران أصحابهما أكثر مما تنفعهما، فالدنيا كلها بما فيها لا تستحق الشماتة فى الآخرين.. ويؤسفنى أن مصر كلها الآن تعيش أزهى عصور التشفى والشماتة، فالبعض يتشفى فى أى إسلامى يسجن أو يقبض عليه أو يقتل، ويسعد له ويفرح به، ويسعد بزوال ملكهم وحل أحزابهم وتشريد أسرهم، وفى المقابل هناك من يفرح فى أى مصيبة تصيب الحكومة المصرية ويتشفى فيها.
إن حياة حسنى مبارك بالذات مليئة بما يصلح أن يفيد الناس، حكامًا ومحكومين ودعاة ومربين وعوام، ولعلى اقترب من مواطن العبرة والعظة فى حياته فى هذه النقاط المختصرة:
أولاً: اختلف مصير مبارك عن مصير «القذافى» و«صدام» و«بن على»، فمبارك سجن والقذافى وصدام قتلا، وبن على طرد، ولما كان القذافى وصدام يحبان القتل ويعشقانه، وقتلا الآلاف من شعبيهما، حتى أن صدام قصف الأكراد بالأسلحة الكيماوية، والقذافى كان يقصف بعض القرى المتمردة بالطائرات، أما بن على فاشتهر بطرد معارضيه السياسيين خارج تونس حتى جاوزوا الآلاف.
أما مبارك فكان يهوى شحن كل معارضيه إلى السجون حتى أن عدد من زار السجون فى عهده من السياسيين قد يزيد على مائة ألف سجين ومعتقل، اختلفت مدد بقائهم فيها من شهر وشهرين إلى ثلاثين عامًا كاملة، أى أن بعضهم دخل فى بداية حكمه وخرج بعد تركه للحكم، فعوقب كل حاكم من هؤلاء بنفس جريرته فـ«الجزاء من جنس العمل» و«كما تدين تدان»، وقد أحصيت فى نهاية التسعينيات وجود قرابة ألف معتقل من الرهائن فقط، وهم أقارب وأسر ومعارف المطلوب القبض عليهم دخلوا المعتقل ثم تم نسيانهم مع تعاقب الأحداث، وكان هناك بعض المعتقلين مكثوا 15 عامًا وصدر لهم 45 حكمًا قضائيًا بالإفراج ولم يفرج عنهم، والبعض حصل على البراءة ومكث فى الاعتقال 13 عامًا، وكانوا يمزحون مع هؤلاء بالقول «معتقلو البراءة».
ثانيًا: قد يكون حسنى مبارك حاكمًا ديكتاتورًا ظالمًا وفاسدًًا ومزورًا للكثير من الانتخابات البرلمانية فى عهده، لكنه رغم ذلك كله لم يكن خائنًا أو عميلًا لأعداء الوطن، فقد كان وطنيًا محبًا لوطنه، وقد رفض بإصرار وعناد أن تكون هناك قواعد أجنبية أو أمريكية فى مصر، ورفض الانصياع لطلب أمريكى 1982 بغزو ليبيا بدعم أمريكى بعد تفجير القذافى الطائرة لوكيربى، ورفض عروض بوش الابن للمشاركة فى غزو أفغانستان أو العراق.. وعمومًا فليس فى حكام مصر كلهم حاكم خائن لوطنه رغم ظلم بعضهم أو ديكتاتوريتهم أو فسادهم أو البغى على معارضيهم، فمعظم ذلك مركوز فى طبائع الحكام إلا من عصم الله، وهم قليل، وكرسى الحكم فيه شيطان يخرج لكل من يجلس عليه سواء أكان اشتراكيًا أم ليبراليًا أم عسكريًا أم يساريًا أم إسلاميًا، أم من أى ملة كانت، المهم من يستطيع أن يقاومه، وهؤلاء قلة.
ثالثًا: تنقسم حياة مبارك إلى قسمين كبيرين:
1 - الأول كان فيها عسكريًا منضبطًا بعيدًا عن السياسة، مهتمًا بعمله، مخلصًا له يعطيه وقته وجهده ولا يعرف سواه، وقد توج هذه الفترة بقيادته لسلاح الجو المصرى فى أول وأهم نصر مصرى وعربى على إسرائيل فى حرب أكتوبر المجيدة.
2 - حكم مصر ثلاثين عامًا تدهورت فيها الخدمات العامة، مثل الصحة والتعليم، وزادت فيها الرشوة والفساد والمحسوبية والتربح من الوظيفة الحكومية مع خصخصة الوظائف، وبيع القطاع العام بثمن بخس، والرشوة والتربح فى بيعه، ومحاولة توريث الحكم لمن لا يستحقه، وكأنه أحسن فى ثلاثين وأساء فى مثلها، وكأنه خرج «لا له ولا عليه».
رابعًا: أما حكم مبارك فينقسم إلى قسمين:
قبل ظهور جمال مبارك وأتباعه وما بعده، فما قبله كان مبارك نشيطًا مجتهدًا يهتم بدعم مكانته كرئيس جديد، فيحاول أن يتم المشروعات الكبرى التى بدأها السادات، والتى نسب أكثرها إليه، وساعده على ذلك مجموعة من المستشارين المخضرمين، أهمهم د. صوفى أبو طالب، ود. رفعت المحجوب، والمشير أبو غزالة، ود. عبدالعزيز حجازى، ود. فؤاد محيى الدين، والفريق كمال على، ود. أسامة الباز، ود. مصطفى الفقى، فلما خلا الملعب من هؤلاء وقفز جمال وأتباعه ممن لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية ضاع الحكم ومعه مصر.
أما بعد ظهور جمال وأتباعه فقد شلت حركة مبارك عن كل مناحى الدولة سوى الأمنية والعسكرية، وتغول جمال وأنصاره فى أركان الدولة فسرقوا ونهبوا وفسدوا وارتشوا، وزوروا الانتخابات بفجاجة، وخصخصوا الوظائف وورثوها، وأهملوا التعليم والصحة وسائر الخدمات، وأصبح مبارك ضعيفًا محصورًا ينتظر فقط لحظة التوريث النهائى.
خامسًا: حكم حسنى مبارك مصر بقانون الطوارئ لثلاثين عامًا كاملة، رغم أنه وعد فى بداية عهده أن تكون الطوارئ لمدة عام واحد، لكنها امتدت لثلاثين، وكانت ستمتد إلى آخر يوم سيحكم فيه هو وأولاده.
صحيح أنه كان محقًا فى فرضها فى بداية عهده بعد اغتيال السادات والأحداث الجسام التى واكبتها، لكن استمرارها وتمديدها بهذه الطريقة لم يكن له أى مبرر، وكان يمكنه رفعها بعد مبادرة منع العنف 2002 ليبدأ باكورة عهد جديد.
سادسًا: أما التعذيب لخصومه السياسيين عامة والإسلاميين خاصة فقد كان منهجًا متبعًا طوال عهده، يزيد تارة ويخف أخرى، لكنه كان شيئًا ثابتًا ومستمرًا طوال الوقت، وأقل فترات التعذيب كانت فى عهدى أحمد رشدى، وحبيب العادلى.
ومن الغريب أن أفضل الفترات التى كاد فيها التعذيب للمعتقلين الإسلاميين أن يتلاشى كان فى السنوات الثمانى الأخيرة من عهد مبارك، وبعد تفعيل مبادرة منع العنف، أى أن أفضل فترة شهدتها السجون ومراكز الأمن المختلفة، وكان فيها حسن المعاملة للإسلاميين عامة والسياسيين خاصة وكاد التعذيب أن ينتهى فيها هى فترة اللواء حبيب العادلى، وفى هذه الفترة زار قرابة ألف من المعتقلين بيوتهم وهم رهن الاعتقال فى مناسبات اجتماعية سعيدة أو حزينة، وبعضهم كان محكومًا عليه بالإعدام، والعادلى هو الوزير الوحيد من وزراء الداخلية فى عهد مبارك الذى حوكم وصدرت ضده أحكام ولم تذكر له حسنة واحدة، وأعتقد أن السر فى ذلك هو دعمه للتوريث، مع أن السجون فى عهده كانت أفضل ما تكون، وذلك بجهود ضابط وطنى عظيم هو المرحوم اللواء أحمد رأفت الذى أكرمه الله بالوفاة قبل الثورة وإلا لسجن مع من سجن.
وهذه والله مفارقة عجيبة تبين أن الدنيا ليست بدار إنصاف ولا عدل، ففى الوقت الذى كان التعذيب على أشده، والقتل من جراء التعذيب وإلقاء المتهم من الأدوار العليا، والقتل بعد التحقيق يحدث فى عهد وزراء داخلية آخرين لم يحاكموا، ولم يتحدث عنهم أحد بشىء، حوكم الوزير الذى تحسنت فى عهده السجون، وزار قرابة ألف معتقل بيوتهم قبل الإفراج عنهم.. إنها الدنيا العجيبة، وأحكامها الغريبة التى لا تعرف القسطاس ولا العدل.
سابعًا: تخلف التعليم فى عهد مبارك تخلفًا كبيرًا، رغم أن مبارك كان يمكنه إحداث طفرة فى التعليم فى فترة السلام مع إسرائيل، والتى قامت فيها إسرائيل بتطوير التعليم لديها حتى أن 9 من علمائها فازوا بجائزة نوبل فى الفيزياء والكيمياء، فى حين أن مصر لم يفز منها سوى د. زويل، ولولا عمله الأكاديمى فى أمريكا بنظامها العلمى والإدارى الجيد ما حصل على نوبل، فالبنية الأساسية للجامعات المصرية لا تؤهل لنوبل ولا لغيرها، فضلاً على أن الفساد والروتين القاتل وتوريث المناصب فى الجامعات قتلها ووأد العلم والبحث الرصين فيها، فاختفت الجامعات المصرية من التصنيف العالمى لأفضل 500 جامعة، فى الوقت الذى كانت هناك دومًا من خمس إلى عشر جامعات من إسرائيل تدخل فى هذا التصنيف.
كما أن مبارك بدأ عهده مع نهضة كوريا الجنوبية، ولك أن تتخيل الآن مكانة كوريا الاقتصادية والصناعية بالنسبة لمصر، فكوريا تنتج أربعة أنواع جيدة من السيارات، مع أن مشروع صنع السيارة المصرية بدأ فى الستينيات.
ثامنًا: لم يكن مبارك حنونًا ولا عطوفًا ولا يحب العفو حتى بدا كجلمود صخر لا يأبه بالعواطف والمشاعر، ولعل تربيته العسكرية الجامدة ساعدت على ذلك، وابتعاده عن الفنون والآداب وما شابه ذلك طوال عمره، وغياب التجارب الإنسانية العميقة طوال فترة عمله الشاق والمضنى، كل ذلك جعله مثلاً لا يعفو حتى عن قائده فى حرب أكتوبر الفريق الشاذلى ليخرج مثل أى سجين، ولا يعفو حتى عن المرأة السجينة التى تسلمت منه جائزة حفظ القرآن ثم عادت إلى السجن، مع أن عادة الملوك والرؤساء إنه إذا سلم على سجين فلا يمكن أن يعود إلى السجن مرة أخرى، ولكن مبارك لم يكن يفهم مثل هذه المعانى بعكس السادات الذى ذاق السجن فى مقتبل عمره وعرف معانى الحياة كلها، وقد قال مبارك كلمة تلخص شخصيته: «أنا لم أعف عن أى أحد»، مع أن العفو هو زكاة الحكم والقدر، ومن شيم الكرام، ولا يدوم حكم إلا بالعفو والصفح.ولك أن تقارن بين مبارك والملك حسين الذى لم يعدم أى سياسى طوال 40 عامًا رغم حدوث 40 محاولة انقلاب واغتيال ضده، وقد كتبت فى هذا المعنى كثيرًا.
تاسعًا: لك أن تتأمل مدى التخلف الذى لحق بمصر فى عهد مبارك من التقدم المذهل الذى حققته إسرائيل التى تصنع الدبابة الميركافا الخاصة بها، وعدة طائرات حربية، بل تصنع الأقمار الصناعية لأغراض التجسس أو البحث العلمى.
والأدهى من ذلك أنها تصنع الصاروخ الذى يطلق القمر الصناعى، أما نحن فلا نصنع أى جهاز طبى أو هندسى أو تقنى له أى قيمة، والشىء الوحيد الذى نحسنه هو صناعة الشيبسى والصناعات الغذائية المتوسطة الجودة.
ملحوظة: لولا ضيق المساحة المتاحة لى لكتبت الكثير والكثير عن مبارك، وقد تابعت حياته وحكمه لحظة بلحظة، وأرجو أن يتعلم مبارك من محنته وأن يتحلل من كل ذنب فعله بينه وبين الله، وأن يترك أى أموال محرمة قبل أن يلقى الله، وهذا الأمر بين العبد وربه، ولا تستطيع محاكم الدنيا كلها أن تدركه.. وأسأل الله أن يغفر للجميع ويتجاوز عن الجميع، فكلنا خطاءون، وعسى الله أن يتوب علينا جميعًا إنه هو الغفور الرحيم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د.شعراوى محمود
مقال جميل
مقال جميل يااخى وبارك الله فيك وما اجمل كلمة الحق
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
دفن رؤوسنا فى الرمال امام مشاكلنا هو البلاء الاعظم - العدل يريح الجميع
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
احترام القضاء نابع من عدله - لا احترام مع سريان الظلم والبطش مهما كانت التبريرات
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد يوسف دياب
هل يفعلها مبارك ؟
عدد الردود 0
بواسطة:
علي عبد الوهاب
مرآة
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
نحاسب الناس على الظاهر والله يحسب على الباطن
عدد الردود 0
بواسطة:
دالسيد عيد
مقال رائع يعكس عقلية لدكتور ناجح المتوازنة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
انتم الاسلاميين وامثالكم سبب تخلف البلاد وبلاش رم بلاوي علي غيركم
عدد الردود 0
بواسطة:
علي
مقال محترم
بارك الله فيك
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الحميد
العلم نور