فى دراسة أجراها معهد ليجاتوم حول مؤشر الازدهار فى 38 بلدا أفريقياً، بناء على عدة معايير تعتمد على الاقتصاد والتعليم والصحة وكثير من الخدمات المقدمة، ونوعية الحياة ومستويات الدخول ونصيب الفرد من الناتج القومى، تقدمت بوتسوانا قائمة العشرة دول الأولى، ذلك البلد الأفريقى الصغير الذى لا يملك أى حدود بحرية، أى لا تطل لا على بحر أو محيط محصورة بين أربعة دول أفريقية هى جنوب أفريقيا وناميبيا وزيمبابوى وزامبيا، بوتسوانا التى استقلت فى العام 1966، وظل ربع سكانها مصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، حتى إن تقديرات اليونسيف كانت تشير إلى إصابة أكثر من 14.000 طفل دون سن الخامسة عشر بالمرض.
أما اليوم فتشير تقديرات معهد ليجاتوم إلى تقدم تلك الدولة الأفريقية، إلى حد أن وصل نصيب الفرد من الناتج المحلى إلى 15.176 دولارا سنويا، لتتقدم على دول كالمغرب التى احتلت المركز الثالث، وتونس التى احتلت المركز الخامس، بينما جاءت الجزائر فى المركز السادس، بينما خلت قائمة العشرة من دولة وصفت بأنها بلد النهر والبحران والشعب الذى يشكو البطالة، هل عرفتموها إنها مصر الحضارة أم الدنيا، التى طالت غفوتها، هاجمنى شعور جارف بالحزن على ما آلت إليه أوضاعنا حتى تخلفنا فى مسيرة ركب الحضارة والإنسانية، حتى مقارنة بدول ظلت تعانى التخلف حتى قريب.
ماذا ينقصنا لنتقلد المكانة اللائقة بنا بين شعوب الأرض؟ يحلو للبعض بأن يكرر أن الحل هو فى الديمقراطية والعدالة، التى تفتح الباب لحساب المذنب وإثابة المحسن، لكن الجميع يتغافل عن أصل الداء، فإذا كانت بوتسوانا تغلبت على نقص المناعة المكتسبة الذى أصاب ربع سكانها، فإننا بحاجة إلى أن نتغلب على نقص المناعة الحضارية الذى أصاب أكثر من 90 بالمائة من سكان مصر، وأعنى التقيد بالحد الأدنى من الأخلاق الإنسانية التى تصعد بالإنسان إلى مستوى الإنسانية، أو تهوى به فى درك عميق ليكون أدنى من الحيوان.
نحن بحاجة لثورة ثقافية تحرر المفاهيم الوطنية والدينية الصحيحة لهذا البلد، وتستدعى جينات عبقرية المكان وتخلص الإنسان المصرى مما أصاب شخصيته من انحطاط، تبدو آثاره فى كل دروب حياتنا كيف نحدد الفارق بين القيم المتعدية النفع فى ديننا، والقيم القاصرة ونضع لكل منها الوزن والاهتمام المناسب، بمعنى كيف تتقدم قيم الصدق والأمانة والإتقان والاحتراف لتحل محل الكذب والفهلوة والعشوائية، كيف تحتل قيم التقدم التى هى قيم إنسانية مشتركة استلهمتها شعوب الأرض فتقدمت، وتنكرت لها أمتنا فتخلفت، كيف تتقدم مقاصد الشريعة وروحها على الطقوس الفارغة من الشعور أو الخشية، والنصوص الجامدة التى لا تقيم حقا ولا تمنع باطلا، نحن بحاجة إلى تحرير الدين مما علق به من مساخر العصور والدهور والأطماع البشرية، التى تسلطت على نصوصه فجعلتنا كما يقول حاكم المطيرى بين ثلاث نسخ لوحى السماء الأول سماه الوحى المنزل الذى ظل يوجه مسيرتنا لعقود حتى حل محله، وحى مؤول طال ظله على حياتنا كأمة، قبل أن يحل وحى جديد سماه وحى مبدل، لم يكن له صلة من قريب أو بعيد بالنسخة الأصلية لهذا الدين، الذى حولناه إلى طقوس فارغة لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، كيف تراجع المنكر الأكبر لحساب الأصغر، شغلونا طويلا بسؤال وهمى مثل خطة إشغال طويلة، هو سؤال الهوية بديلا عن سؤال التحديث الذى فشلنا فى الإجابة عليه، كان ينبغى أن نسأل أنفسنا ماذا قدمنا للبشرية فى العلوم والفنون والآداب، وليس الحديث عن هويتنا التى تبقى هوية بائسة، ما لم ترتبط بصعودنا فى سلم العمران البشرى، الذى هو الباب الوحيد لصك هويتنا المميزة، ماذا تعنى الهوية لمواطن لا يتمتع بحقوقه الأساسية، بينما يدير الساسة والجماعات والقوى معارك حول حقوقه السياسية، سيدى دعه يقيم صلبه أولا بماء وهواء وغذاء ومسكن وغيره، ثم تحدث عن حقوقه السياسية التى لن ينالها قبل أن تستقيم لديه قيم هذا العالم المتقدم.
لماذا لا تنشغل الأحزاب والقوى السياسية بمهمة تنوير هذا الشعب، وتزويده بمهارات العمران والتقدم البشرى، بديلا عن حديث الفضائيات ومعاركه الفارغة، تستطيع الأحزاب أن تكون مدارس حقيقية تنتشر بين الناس وتكون عونا لقضية التنوير، قبل أن تتحدث عن تثوير لن ينتج سوى الفوضى ووصول الأوضاع إلى أسوأ مما كانت عليه، هذا الشعب بحاجة إلى أن يتعلم السلوكيات الصحيحة دينيا ووطنيا قبل أن يتحدث أحد عن الحقوق والحريات، فالمسؤولية هى الوجه الآخر للحق، وهذا الشعور بالمسؤولية الدينية والوطنية أو الوازع الدينى والوطنى هو ما نفتقده فى حياتنا، وهو أولى خطوات التغيير والنهوض.
هل من الممكن أن تتحلى الأحزاب بالبصيرة الكافية، وتعمل فى هذا الحقل بالتوازى مع معارك البرلمان فتحفر لنفسها مكانة مستحقة، تصنع رجال دولة حقيقيين يفتحون الباب لبدائل للمستقبل، تتجاوز الثنائيات البغيضة التى حكمت حياتنا، وتفتح أبواب الأمل للغد الذى طال انتظاره..
نحن بحاجة لإعادة اكتشاف إنسانيتنا وجيناتنا الأصلية، التى ضاعت ملامحها تحت غبار المعارك الوهمية التى لم تشتبك مع أدوائنا الحقيقية، وهذا لا يمر إلا عبر اكتشاف حقيقة معنى الدين والوطن والعلاقة بينهما، والعمل فيما هو مشترك بإنهاض هذا الوطن من كبوته، بإصلاح البيت والشارع والمصنع والجامعة، قبل الحديث عن قواعد المنافسة السياسية التى لم تتهيأ بعد ظروفها الصحية، صدقونى إما أن تتشابك الأيادى فى بناء هذا الوطن، وأما أن تتشابك على هدمه وأنتم أصحاب الاختيار، إما أن يتعاظم حلمكم فى أن تتقدموا الأمم، أو يصبح اللحاق ببتسوانا حلما بعيد المنال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة