بعد تخرجى فى الجامعة، عملت باحثا فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية وهو مؤسسة علمية مرموقة، لكنها محاصرة، ومهمشة بسبب الإهمال المتعمد والدائم لكل ما يصدر عنها من بحوث وتوصيات علمية بالغة الأهمية، فكل حكومتنا تقريبا لا تأخذ بنتائج البحوث الاجتماعية، وبالتالى تتعمق الفجوة بين مؤسسات صنع القرار ومراكز البحوث، ما يصيب الباحثين بالإحباط.
فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية تعلمت الكثير على يد مجموعة مرموقة من العلماء، كان أكثرهم تأثيرا فى تكوينى عمنا الكبير د.سيد عويس، الذى تمثل أعماله إبداعا بحثيا حقيقيا، غير مسبوق بين علماء الاجتماع والبحوث الثقافية، وعبقرية عمنا تبدأ من اختيار موضوع أو ظاهرة الاجتماعية لم تدرس من قبل، ثم يقوم ببحثها برؤية تحليلية، تاريخية نقدية، ومن ثم يتوصل إلى نتائج جديدة، خذ مثلا بحثه الفريد من نوعه الذى أجراه فى نهاية الستينيات من القرن الماضى عن العبارات المكتوبة على هياكل السيارات، وكانت فى الأغلب سيارات نقل، وانتهى إلى أن هذه العبارات هى نوع من هتاف الصامتين.
مرت 44 سنة على إصدار الكتاب لكن كلما قرأت الآن عبارة على ميكروباص أو سيارة نقل أو توك توك أتأملها وأتذكر تفسيرات عمنا العظيم سيد عويس، ولفت نظرى أن أصحاب السيارات الخاصة لهم رموز وعبارات وأيقونات تمثل فيما أعتقد هتافا من نوع آخر هو هتاف القادرين !! بعض السيارات محملة بالرموز التى تعكس المكانة الاجتماعية والمهنية أو الدينية فى آن واحد، وكلها تصنع هويات مشتركة أو تتلمس وجودها فى مدينة مليونية مثل القاهرة، وفى عصر تشظت فيه الهويات وتعولمت صارت صناعة الهوية صناعة وتجارة وممارسة سهلة لا تتطلب مجهودا بل تقتصر على وضع شعار أحد أندية كرة القدم، أو شعار نقابة أو جامعة أو حتى كتابة عبارة أو شعار باللغة العربية أو الإنجليزية.الأطباء يضعون علامات تميزهم، والصحفيون، ورجال القضاء، والعاملون فى شركة أو مؤسسة مرموقة، الكل يضع ملصقات صغيرة على زجاج السيارة الأمامى بشكل واضح، وفى نوع من التباهى الاجتماعى، ويبدو أن النقابات والجامعات الخاصة وبعض الشركات ترحب بذلك وتدعمه، فهو إعلان مجانى متحرك عن وجودها ونشاطها، وتأكيد على هوية فئوية أو مهنية.
هكذا أصبحت هياكل أغلب السيارات الخاصة، إلى جانب نوعها وسنة صنعها أيقونة طبقية بامتياز أو هتاف من نوع جديد للقادرين، هتاف أعلى مظاهره.. التباهى بتصريح دخول إحدى الوزارات إلى جانب تصريح الدخول إلى مارينا، إلى جانب تصريح دخول أحد الأندية الرياضية المرموقة، وتعتبر كل هذه الإيقونات شكل من أشكال ممارسة السلطة والتمايز عن الآخرين، فكل من يرى السيارة سيقدر مكانته صاحبها، حتى وهى واقفة بدون ركاب !! لأن صاحبها حاضر بسلطته ومكانته لدى كل من يشاهد السيارة، أنه حضور متجاوز الحضور المادى لصاحب السيارة - السلطة. هتاف القادرين فى شكل أيقنة ورمزية السيارات الخاصة لم يكن معروفا أو منتشرة عندما كتب عمنا سيد عويس بحثه الرائد عن هتاف الصامتين، لكن تغير الأحوال والأزمنة وتحول السلطة والمال والثقافة أبقى على هتاف الصامتين، وسمح بظهور هتاف القادرين، فى صراع بينهما نشهده يوميا، وعلى مدار الساعة، فى شوارع المحروسة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
علي عبد الحليم
هـــــــــــتــــــــــاف الـــمــــصـــــــوتـــــــــــــــيــــن