تعتبر قضية العدل الاجتماعى من أولى القضايا التى شكلت الهدف الرئيسى لكل هبة جماهيرية أو ثورة عرفها هذا البلد عبر تاريخه الحديث، تقدمت تلك القضية إلى سلم أولويات النظام الحاكم فى مصر على عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذى كانت انحيازاته الاجتماعية واضحة للفقراء والمهمشين، بدا ذلك فى كفالة حد لائق من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين على مستوى الخدمات الرئيسية، سواء الإسكان أو التعليم أو الصحة أو النقل الذى كان يقدم بمستويات مقبولة جدا، حتى برز الانفتاح
الاقتصادى وما حمله من تغير أولويات النظام السياسى، الذى أصبح سافر الانحياز للرأسمالية بدءا من تلك المرحلة وحتى اليوم، فى قضية مثل قضية الإسكان التى تعبر عن أهم احتياجات المواطن وتعد أول لوازم الانتماء لهذا الوطن، على حد ما ذكره السادات للوزير الأهم فى التاريخ المصرى الحديث أكثر وزراء مصر انحيازا للشعب وأدقهم بصرا وبصيرة، المهندس حسب الله الكفراوى متعه الله بالصحة والعافية، يذكر الرجل فى حوار صحفى كيف استدعاه السادات فى العام 1977 ليعلمه بمشروع سماه خريطة جديدة لمصر، أعلن فيه عن توفير مليون متر مربع من الأراضى الجديدة بسعر 50 قرشا للمتر، وأقبل الشعب على المشروع وتم حجز 11 مليون متر رغم الإعلان عن مليون متر فقط، أكد السادات ضرورة حصول كل مواطن على قطعة أرض قائلا له: المواطن اللى ما لوش حتة أرض يعيش فيها، وحتة أرض يشتغل فيها، وحتة أرض يدفن فيها لا يكون له انتماء وولاء للبلد، كيف أرسله يحارب فى سيناء؟ له فيها إيه يا كفراوى؟ ده ثمن الولاء والانتماء يا كفراوى!
يكمل الوزير حسب الله الكفراوى مؤكدا، أن الخطة بدأت ومات السادات ومضى مبارك فى العشر السنوات الأولى يعمل بجد، حتى ظهرت خطة التوريث ومن ثم التوجه من جديد لإرضاء الرأسمالية التى جددت تحالفها مع السلطة، وبدت توجهات جديدة ومضت تحت الجسر مياه لتظهر سياسات النيوليبرالية التى انتهجها مبارك مع لجنة السياسات، التى كانت المطبخ الذى كان يعد الإستراتيجيات القادمة، وظهرت المنتجعات والشاليهات التى قفزت أسعارها إلى الملايين والتى كانت نتاجا لسياسات تسقيع الأراضى والفساد فى إدارة مقدرات الدولة المصرية، والعدوان على حقوق الغالبية الكاسحة لحساب مجتمع الخمسة بالمائة، الذى قامت عليه ثورة يوليو ثم استأنفت ثورة يناير بعدها بستين عاما مسار المطالبة بحقوق هذا الشعب المهدرة، داعب الرئيس عبدالفتاح السيسى طموح وأحلام الشعب المصرى فى هذا الجانب، عندما كشف فى حملته الانتخابية عن مخطط جديد لتقسيم المحافظات بما عزز لدى الكثيرين الأمل فى استعادة معنى التخطيط والنظام والنظر للقطاعات العريضة من هذا الشعب، وكان مما طرح الحديث عن
مشروعات إسكان حكومى سوّقت باعتبارها ستكون طفرة جديدة فى مفهوم المسكن الخاص، لنكتشف أن هناك طفرة بالفعل ولكن فى الأسعار! طرحت الدولة مشروع دار مصر للإسكان فى بعض المدن الجديدة بأسعار فلكية، وصلت بسعر المتر إلى 4500 جنيه لتصل الشقة التى تبلغ مساحتها الصافية أقل من 120 مترا إلى 700 ألف جنيه إذا سدد ثمنها على أربع سنوات، بما يعنى أن يدفع المواطن %20 من سعر الوحدة يعنى 140 ألف جنيه مقدما، ثم يدفع الباقى على أقساط ربع سنوية لمدة أربع سنوات، أى مطلوب من المواطن الذى ينتمى للطبقة المتوسطة المستهدفة بهذا المشروع، أن يسدد شهريا أكثر من 11 ألف جنيه قسطا بما يعنى أن دخله يجب ألا يقل عن 15 ألف جنيه، فهل هذا هو متوسط دخل المواطن فى مصر يا حكومة محلب؟ بالمناسبة الحكومة لم تترك هذا المواطن دون أن تتيح له خيارا أفضل فى التقسيط على 15 سنة، لكن بعدما رفعت سعر الوحدة إلى مليون ونصف!
ما الذى يحدث فى مصر؟! هل كان التغيير فى يونيو يعنى أن تتحول الدولة إلى وحش أو تاجر جشع، ينضم إلى شبكة المصالح التى امتصت دماء هذا البلد؟ اذا يعنى أن تنضم الدولة إلى شركات المقاولات وتشعل سوق العقارات بعد هذا المشروع؟من المعروف أن الدولة حصلت على الأرض بالمجان وتكلفة توصيل المرافق لا تزيد عن 300 جنيه للمتر المربع، ويؤكد الخبراء أن تكلفة المتر فى المبانى لا تزيد عن 1000 جنيه، بما يعنى أن تكلفة المتر المربع مرفق ونصف تشطيب لا تزيد عن 1300 جنيه، بما يعنى أن سعر الوحدة فئة 100 متر لا ينبغى أن يزيد ثمنها عن 130 ألف جنيه كتكلفة ولو حصلت الدولة على هامش ربح %30 أى 39 ألف جنيه يكون ثمن الوحدة 170 ألف جنيه تقريبا، فلماذا هذا السعر الفاحش؟ ولو افترضنا أن الدولة ستسلم الشقق كاملة التشطيب فمن المعروف أن تكلفة التشطيب لا تتجاوز 600 جنيه للمتر يعنى أضف 60 ألف جنيه أخرى للسعر، فيصبح السعر النهائى كامل التشطيب 230 ألف، فكيف يصبح السعر 450 ألف جنيه؟
هل يعلم الرئيس السيسى شيئا عن ذلك وهو الذى تحدث فى حملته عن تدخل الدولة لحماية محدودى الدخل وضبط الأسعار؟ أعتقد أن هذا المحك كاشف فى تحديد انحيازات الدولة هل هى ماضية فى رعاية الطبقة المتوسطة التى هى أساس المجتمع الديمقراطى وضمانته، أم الهدف هو قتل تلك الطبقة وتضييق مسالك العيش عليها؟ هذا المشروع وغيره من المشروعات والسياسات لا ينظر كيف صبر هذا الشعب واستوعبت القطاعات المهمشة والفقيرة فيه ضرورة رفع الدعم الجزئى عن الطاقة، الذى أطلق وحش الأسعار من عقاله وصبر وتحمل بمسؤولية وطنية، يكافأ عليها الآن بأمثال هذه المشروعات، أمر غير مفهوم ويكشف عدم جدية النظام فى الحفاظ على العدالة الاجتماعية، وبالتالى تهديد أسس مشروعية نظام الحكم وفتح بوابات اليأس والغضب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة