يرتبط الخيال بالعنوان، ارتباط جنين بالحبل السُّرى، كل المنمنمات الصغيرة لا تزال تُطرز جدار القلب: رائحة الفل والريحان وصوت زخات المطر وخرير مياه "المزاريب" وهديل اليمام وموسيقى ما تترقرق من "راديو ترانزيستور" يستقر على حِجر جدتى السبعينية، إذا تتشمس على سريرها المواجه للشباك، وتكشف ساقيها للأشعة اللطيفة حتى تطرد أوجاع "الروماتيزم".
15 شارع روديسلى، عنوان بيت بشارع يهجع فى غلالة من وداعة، يقع بين محطتى سبورتنج وكليوباترا، سكندرى بامتياز، فيه تمتزج مذاقات المدينة العتيقة، ويعيش يونانيون مسنون تزوجوا واندمجوا و"تسكندروا" وأنجبوا "أولاد بلد" ليس لهم من أعراق أسلافهم الأوائل من إرث، أللهم إلا العيون الخضراء والزرقاء والشعر الأشقر، ونوبيون هجروا بلاد الذهب، فتعلّقت أرواحهم بمدينة تفتح الأحضان لمن يقصد فيروز شطآنها، وصعايدة كأعواد الخيزران، قصدوا عروس المتوسط فأصابهم عشق بنات بحرى، ولم يبق لديهم من ذكريات الجنوب سوى مواويل يترنمون بها فى ليالى الحنين، وجلاليب فضفاضة يرتدونها فى مناسبات نادرة على سبيل الوجاهة، وفيه سكندريون أبًا عن جد، أو هكذا يقولون، وبعضهم ينحدر من عائلات تحترف صيد الأسماك، وتتشرب وجوههم الحُمرة العفية، وتنعجن خلاياهم بجزيئات اليود.
كما يقطن الشارع مسلمون ملتحون، ملتزمون حقًا، يفشون السلام ويغضون الطرف ويحفظون حقوق الجيرة ويسلم الناس من ألسنتهم وأياديهم، ولا يدسون أنوفهم فيما لا يعنيهم، وأقباط طيبون منهم "عم جرجس" مدرس أول اللغة الإنجليزية، صديق العائلة الصدوق، و"بنك التسليف" الذى طالما كان الكثيرون يهرعون إليه فلا يرد محتاجًا إلا بعدما يفرّج عنه كربة من كرب الدنيا.
الطراز المعمارى بدوره لا يختلف عن فسيفساء البشر، ففى حين تحرس ناصية الشارع جهة البحر، عمارة النُقلىّ، بتماثيل وجوه الأسود المحفورة فى لحم الأسمنت، والبوابة المشغولة بحديد الزهر، تواجه فيلا "مبروك الأسوانى" الناحية القْبليّة بطرازها المصرى الصميم وشبابيكها الأرابيسك، وفى المنتصف بيت "الست ريتا" العجوز اليونانية المطلقّة، بسقفه القرميدى الأحمر المائل، وبعده بقليل مرآب سيارات "على السوهاجى"، وكشك "عم عبده" بائع المياه الغازية صيفًا، وقصب السكر شتاءً.
بيتنا كان هنا.. لا شىء يميزه تحقيقًا سوى حديقة خلفية، لا تعد كبيرة لكنها كانت تكفى قياسًا بخطى الطفولة الصغيرة، لإقامة مباريات كرة قدم لصغار العائلة الذين لم يكن يعنيهم ما يفتعلون من ضجيج، وما يشيعون من صخب يؤرق الجيران الطيبين، أو يحطم أصُص الريحان والخُبيزة الإفرنجية التى استقدمت أمى بستانيًا لاستزراعها حتى تتلون الحياة بألوان النماء.
فى الحديقة أيضًا، ثمة غرفة من الطوب الأحمر، إنها "أوضة الحمام"، حيث ربت أمى مختلف فصائل هذا الطائر الرقيق: الرومى والباكستانى والهزّاز والصنعاوى اليمني، وحيث كانت تجد هدأة النفس والسكينة إذ تقتعد كرسيًا إزاء طيورها الأثيرة قبيل الغروب، فتحتسى شايًا بالقُرنفل، وتُسبِّح البارئ البديع المصوّر، وهى ترمق أنثى تفرد جناحيها لتحضن فراخها تحتهما فتتدفأ من برد الشتاء، أو تضع فى مناقيرها الحبوب، فتشبع بعد مسغبة.
ولم يحدث أن جرؤت أمى على ذبح طائر من طيورها، قلبها كان أرق من ذلك، بل كانت من حين لآخر تهدى زوجًا أو أزواجًا لأحد الأقارب أو المعارف، وتودعها بعينين كسيرتين وقلب ينفطر أسى.
وإزاء "أوضة الحمام" تمد شجرة عجوز جذورها إلى أعماق الأرض، لا ثمر لها، لكنها ذات فروع إذا أورقت فى الربيع، تسمح للعصافير بنسج أعشاشها، الأمر الذى كانت تتحين فرصته هرر ماكرة، فتتسلق لصناعة مجازر يختلط فيها الزغب بالدم بالمخالب بالأنياب، فيما دموعى تنهمر وطفولتى تتوجع كمدًا وعقلى يرفض استساغة التفسير: "هذه إرادة الله".
سماء الحديقة عالم مفتوح، تتراقص فى صفحته الزرقاء مشاهد أسطورية، فهذا سرب طيور مهاجرة، يتخذ شكل السهم المدبب، وتلك سحب بيضاء كالقطن المندوف، أو تشبه وجه دب مستدير، أو جسم فيل هائل له خرطوم يتأرجح، أو حوت هائل يسبح فى الأفق اللانهائي، وهكذا بغير حدود تتناسل الصور من رحم خيال خصب.
فى مرحلة لاحقة، استزرع أخى الأصغر، الذى أحسبه عالم بيولوجى ضل الطريق إلى الإخراج الصحفي، شجيرتى موز ومانجو، فأثمر الموز أصابع محيطها لا يزيد عن محيط الخنصر وطولها طول السبابة، لم أذق أحلى منها مذاقًا، ولم أتنسم أطيب منها عطرًا، بينما لم تعط المانجو الثمر لأسباب بقيت سرية غامضة، فيما ربيت أنا جميع فصائل الكلاب، من الراعى الألمانى الضخم إلى الـ "شيواوا" الصغير، فتعلمت من هذه الثديات اللاحمة معانى الإخلاص والوفاء والعطاء.
على الحيطان لونت أحلامًا، وسجلت بالطباشير الأخضر حكايات، وحين خط شعر خفيف شاربى وذقني، انصهرت فى نيران الوجد، واختبرت أوجاعًا صامتة، ودثرت وجهى فى وسادة الظلام، أدارى دموع الحب الأول، والجرح الأول، والفقد الأول، وإلى أعماق قلبى يسرح صوت "عبدالحليم" ناعمًا كحد خنجر: "آه يا ليلى آه يا عيني.. يا اللى شفت فى عنيا الدموع وأنا دايمًا راجع وحيد".
15 شارع روديسلى، لم يكن مجرد بيت عتيق وحديقة خلفية، كان تاريخًا ينبض.. الجدران شهدت الزمن الذى مضى، الزوايا احتفظت بشيء من أنفاس من رحلوا، والأعمدة سجلت بقايا من صدى ضحكات الصغار.. أولئك الذين صاروا كهولًا، فى ومضة زمنية.
منذ نحو عامين، شاءت إرادة التشويه الحضارى أن نهجر البيت العتيق ، لتبدأ عملية هدم متوحشة، وتحول الذى كان إلى ركام، ثم استوطنت الأنقاض عمارة شاهقة، وجاء سكان جدد من كل فج غريب، ومن بعدها لم يقوَ قلبى ولم تتمكن ساقاى من حملى إلى الشارع سوى مرة.
وقفت إزاء المكان، طأطأت رأسي، التوى صدري، ارتد بصرى كسيرًا، تحشرج حزن فى أعماقي: "لا أحب المكان".. خرجت من الشارع أمشى كزورق مثقوب يغرق ببطء فى ماء الأسى، ليس هذا 15 شارع روديسلى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة