د. عمار على حسن

خرائط الدم والنار

الأربعاء، 08 أكتوبر 2014 10:31 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
حين نطالع معلومات تبين أن مئات المصريين يقاتلون الآن فى صفوف «داعش» نجد أمامنا سؤالا عريضا: كيف وصلوا إلى هناك؟ وما الطريق الذى سلكوه جغرافيا وفكريا؟ والإجابة ستكون فى سلسلة مقالات أبدأها هذا الأسبوع، وهى دراسة أعددتها من مراجع ومصادر متنوعة، لن يرد ذكرها لمقتضيات النشر الصحفى.

ولتكن نقطة البداية متقدمة ثم نعود منها إلى الخلف مبحرين فى التاريخ القريب لنعرف كيف وصل المتطرفون المصريون إلى القاعدة ومن بعدها داعش، فأيام حكم الإخوان أتيح لبعض المتطرفين والإرهابيين فى مصر الانضمام إلى أمثالهم ممن يحملون السلاح ضد نظام بشار الأسد فى سوريا، وهؤلاء يشكلون الآن جزءا من تنظيم داعش الذى استولى على أجزاء شاسعة من الأراضى السورية والعراقية وأقام عليها ما يسميها «خلافة إسلامية».

وفى الحقيقة فإن معتنقى الأفكار الدينية المتطرفة فى مصر، كما هو فى غيرها، طالما حلموا بالهجرة و«الجهاد» وشكلوا نواة لتنظيمات ذات طابع أممى ومنها «القاعدة»، وإذا كان التنظيم الدولى لجماعة «الإخوان» جزءا من كيان الجماعة، التى ولدت فى ظرف تاريخى، جعلها تضع نصب عينيها منذ البداية ضرورة أن تعبر القوميات، فإن الحركات الأكثر راديكالية لم يكن ضمن أولوياتها لحظة تشكلها التحرك خارج حدود الدولة، وتكوين «تنظيم دولى» ما، بل كانت أهدافها محددة فى قضايا محلية أو داخلية، ذروتها تغيير نظام الحكم القائم بالقوة، باعتباره فى نظرها «حكما كافرا» أو «ظالما» و«فاسقا» على أقل تقدير، لأنه «لا يطبق الشريعة الإسلامية»، بالصيغة التى ترى هذه الجماعات أنها تعبر عن «صحيح الإسلام».
ثم جاءت ظروف سياسية، نجمت أساسا عن صراع دولى خلال فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتى المنهار والولايات المتحدة الأمريكية، جعلت هذه الجماعات تطل برأسها خارج الحدود المصرية. وبعدها تراكمت الأسباب التى جعلت من «الهجرة» مرحلة ضرورية تكتيكيا بالنسبة إليها، ومن هنا انفتح الباب على مصراعيه أمام «تعولم» الإسلاميين الراديكاليين فى مصر.

والوصول إلى هذه المرحلة لم يتم عبر قفزة سريعة أخذت هؤلاء من التحرك محليا إلى منازلة أكبر دولة فى عالمنا المعاصر، إذ إن الخروج من مصر لم يغير، طيلة ثلاثة عقود تقريبا، من تفكير قادة وأعضاء مختلف «الجماعات الإسلامية الراديكالية»، وهو التفكير الذى انصب بالدرجة الأولى على أن الهدف الرئيسى هو إسقاط نظام الحكم فى مصر، بوصفه «العدو القريب»، وبعدها يمكن التفكير فى مجابهة «العدو البعيد» وفى المقدمة الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن هنا كانت «الهجرة» خارج مصر تستهدف تحقيق «التمكن» الذى لم يكن من المتاح الوصول إليه فى مصر نفسها، نظرا ليقظة الأجهزة الأمنية وصرامة السلطة الحاكمة فى التعامل مع أى جماعات خارجة على القانون، وبعد ذلك تأتى مرحلة «الفتح»، الذى يعنى دخول أعضاء هذه الجماعات إلى مصر فاتحين على غرار الفتح الإسلامى الأول، الذى تم على يد عمرو بن العاص، فى محاولة إعادة إنتاج حدث تاريخى قديم بشكل تبسيطى لا يخلو من سذاجة كبيرة، وعلى هذا الأساس يمكننا فهم سر إطلاق تنظيم الجهاد على العناصر التى دفع بها إلى مصر فى عقد التسعينيات من القرن الماضى لاغتيال بعض رموز السلطة السياسية وضرب السياحة اسم «طلائع الفتح».

لكن العوامل القديمة التى ساهمت فى إيجاد مسألة «الهجرة» لم تلبث أن رشحت على هذا التفكير، وكان من الصعب أن ينسلخ الراديكاليون الإسلاميون المصريون تماما عن الأطراف التى ساهمت فى تشكيل حركتهم إلى الخارج، وتحديدا إلى أفغانستان، ومن ثم ما إن خرجت القوات السوفيتية من هذا البلد ونشبت حرب أهلية بين فصائل «المجاهدين» حتى وجد هؤلاء المتطرفون، الذين انضووا تحت مسمى عريض هو «الأفغان العرب» أنفسهم موزعين على تكتيكات واستراتيجيات أطراف إقليمية ودولية، بعضها استخدم الهاربين من قيادات الجماعات المتطرفة أوراقا فى يده يناور بها الحكومة المصرية، وفى مقدمة هذه الأطراف تأتى الولايات المتحدة، التى تردد أنها أجرت اتصالات مع قيادات من «الإخوان المسلمين» و«الجماعة الإسلامية»، إبان فترة العنف الأخيرة والعصيبة التى مرت بها مصر، وامتدت من 1989 إلى 1997. وبعض هذه الأطراف عول على هؤلاء فى تحقيق أهداف بعيدة المدى تخص إقامة «أممية إسلامية»، مثل ما هو الحال بالنسبة للسودان طيلة عقد التسعينيات من القرن المنصرم، أيام نفوذ «جبهة الإنقاذ الإسلامية» التى يتزعمها حسن الترابى.

بالإضافة إلى ذلك استفاد بعض الهاربين من بين أفراد «الجماعات الإسلامية» من قوانين اللجوء السياسى فى دول أوروبا، وحصل كثيرون على فرص عمل فى بلدان عربية خليجية وغير عربية، ووجد آخرون فى بؤر الصراعات المسلحة، أو ما يطلق عليها «البؤر الملتهبة»، فى البوسنة والهرسك، وكوسوفا، والشيشان، وكشمير، وطاجيكستان، والفلبين، مأوى بعد أن أوصدت مصر أبوابها أمامهم، إثر صدور أحكام غيابية عليهم تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة، باعتبارهم ارتكبوا جرائم.

وهذه الأحوال أدت إلى توزيع الإسلاميين الراديكاليين المصريين، الذين ينتمون إلى مختلف التنظيمات والجماعات المتطرفة، على دول عديدة تنتمى إلى القارات الست تقريبا، منتفعين من التعاون مع أجهزة استخبارات تارة، ووجود عناصر قادرة على تزوير الأوراق الثبوتية كافة، وتوافر جهات قادرة على التمويل دوما، وساهمت الطفرة الهائلة فى وسائط الاتصالات فى ربط هؤلاء جميعا بمراكز قيادة فى الخارج، وعناصر قيادية داخل مصر نفسها، فى حين ساهم التقدم الملموس الذى شهدته الأعمال المصرفية فى إتاحة فرص كبيرة لتحويل الأموال وغسيلها، من أجل دعم عمليات إرهابية أو دفع مقابل لمتعاونين وأعضاء فى هذه التنظيمات، أو الإنفاق على أسرهم، سواء فى الداخل أو فى الخارج. كما وفرت شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت» وسيلة إعلامية رخيصة وسهلة أمام هذه التنظيمات لتصدر صحفها وبياناتها المتتالية.

وتحت راية القاعدة امتزجت أهداف المتطرفين المصريين، أو تناغمت، مع أهداف أبعد كانت تدور فى رأس قيادات راديكالية من دول عربية وإسلامية أخرى، جعلت من الولايات المتحدة «العدو الأول»، لإجبارها على سحب جيشها وعتادها من منطقة الخليج العربى، وإخراجها من معادلة الصراع العربى الإسرائيلى، ولم يكن تحول من هذا النوع صعبا على الإطلاق، نظرا لأن «الأفغان العرب» عموما، ليسوا سوى نتاج لصراعات عالمية، أيديولوجية واستراتيجية، أكسبتهم خبرة عميقة نسبيا فى التعامل مع قضايا تتعدى حدود أقطارهم، وغذت لديهم ميلا، تنامى باستمرار، إلى إيجاد «أممية إسلامية». وعبرت أدبيات الراديكاليين الإسلاميين وتصريحات قادتهم، اعتبارا من النصف الثانى من عقد التسعينيات من القرن الماضى، بوضوح وجلاء عن هذا التوجه الجديد، ثم جاءت تحركاتهم لتؤكد هذا، إذ إنها اخترقت حدود الدول القومية وساحت فى عالم جغرافى تخيلى ينتهى عند نقاط التماس ملتهبة فى العالم الإسلامى، ويعيد إنتاج التصورات الأكثر شمولية التى تحدثت عن دولة إسلامية تمتد من غانا إلى فرغانة.

ومع ذلك فمن الصعوبة بمكان التسليم تماما بأن الطابع الأممى للجماعات المتطرفة فى مصر صنيع السنوات الأخيرة، أو مرحلة ما بعد إسقاط حكم الإخوان، كما يتصور البعض، فهو يشكل جزءا من خطاب هذه الجماعات منذ زمن، تمحور حول ثلاث قضايا رئيسية، هى «الخلافة» و«الجهاد» و«العلاقة مع الغرب». لكن على المستوى العملى قاد ترتيب الأولويات لدى هذه الحركات إلى جعل تغيير الوضع الداخلى قسرا هو القاعدة الأساسية للانطلاق إلى بناء أنماط عدة من التعاون مع الحركات المتطرفة فى بلدان عربية وإسلامية أخرى لإسقاط الأنظمة الحاكمة، ومنها ما يتم فى سوريا والعراق حاليا تحت راية داعش.

(ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة