إذا أردت أن تعرف كيف فضل الله الإنسان على كل المخلوقات، وكيف أن الإنسان ليس مجرد مخلوق من طين، إنما هو من روح الله، يسمو فوق كل دنس، اقرأ رسالة ريحانة جبارى لأمها تعرف ذلك.. وريحانة جبارى هى الفتاة الإيرانية التى حاول ضابط مخابرات إيرانى اغتصابها، فقاومته، وهى بنت التاسعة عشرة، وقتلته، وقبض عليها، وظلت فى السجون ستة أعوام تنتظر الإعدام حتى نفذ فيها يوم السبت الماضى.
«لقد عشتُ يا أمى 19 سنة فى هذا العالم.. فى تلك الليلة المشؤومة كان يجب أن أكون أنا القتيلة، كان جسدى ليُلقى فى إحدى زوايا المدينة، وبعد أيام كانت الشرطة ستأخذكِ إلى مكتب الطبيب الشرعى لتتعرّفى على الجثة، وكنتِ ستعرفين حينها أنى قد اغتُصبت.. لم يكن أحد ليتوصل إلى هوية القاتل؛ لأننا لا نملك أموالهم ولا نفوذهم.. عندئذٍ كنتِ ستكملين بقية حياتكِ فى معاناة وعار؛ وكنت ستموتين كمدًا بعد بضع سنين، وكانت القصة ستنتهى».
هذا هو وضع المرأة فى عالمنا الشرقى المنحط، الذى يتصور حكامه وشيوخه أن المرأة فيه متاع مشاع، فما بالك حين يكون هذا المجتمع محكومًا بالديكتاتورية والأمن البشع الذى لا تكون مهمته يومًا الحفاظ على بنى الإنسان، أكثر من الحفاظ على حكامه الذين ما إن يصلوا إلى الحكم حتى يقطعوا كل صلة ببنى البشر، ويتصورا أنهم أنصاف آلهة، إن لم يكن آلهة، ولا يدركون أنهم بذلك إلى «زبالة» التاريخ ذاهبون.. ريحانة بنت التاسعة عشرة عامًا قاومت بروحها، إذا تصورت أنت المقاومة لضابط مخابرات مدرب، ستعرف كيف هى هزيلة الجسد، لكن روحها أعظم، فانتصرت على الغاشم المتكبر بجسده ومنصبه، دفاعًا عما خصها الله به.. الشرف، أمانة حياتها، حتى تمنحه لمن تحب.
«تعلّمت منكِ أن المرء يولد فى هذا العالم ليكتسب خبرات، ويتعلم دروسًا، تعلّمت أنه يجب على المرء أحيانًا أن يقاتل، أذكرُ حين أخبرتِنى أن سائق العربة قد احتج على الرجل الذى كان يجلدنى، لكن الجلاد ضرب رأسه ووجهه بالسوط، ليموت فى النهاية بأثر ضرباته.. لقد أخبرتِنى أن المرء يجب أن يثابر حتى يُعلى قيمة، حتى لو كان جزاؤه الموت».
«حين وقعت الواقعة، لم تساعدنى مبادئى.. حين قُدمت إلى المحاكمة بدوت امرأة تقتل بدم بارد، مجرمة لا تملك ذرة من رحمة، لم تسقط منى ولو دمعة واحدة، لم أتوسل إلى أحد، لم يغمرنى البكاء لأنى وثقت فى القانون.. أجل كل ما نتعلمه من قيم رفيعة فى البيت والمدرسة، وبين صفحات الكتب ينتهى أمام رجال الحكم الذين لا يرون فى ضباطهم وحرسهم إلا سادة لا يمكن إدانتهم، ولا بد من إخفاء أى دليل على إدانتهم، فأركان الدولة من أعمالهم الحقيرة أكثر مما هى من أعمالهم الطيبة التى عادة لا توجد حين تكون الديكتاتورية راية الحكم وعلمه».
تحولت ريحانة، ابنة التاسعة عشرة عامًا، إلى قاتلة لضابط مخابرات، كان فى قوته أن ينهى وجودها فى لحظة، لكن روحه منحطة، وروحها عالية فى السماء، جعلت من جسدها أعظم قوة.
«لكنى يا أمى اتُهمت باللامبالاة أمام الجريمة.. أترين؟ لم أكُن أقتل حتى الحشرات، وكنت أرمى الصراصير بعيدًا، ممسكة بقرون استشعارها.. أصبحت بين ليلة وضحاها قاتلة مع سبق الإصرار.. لقد فسروا معاملتى للحيوانات على أنه نزوع لأن أصبح ذكرًا؛ ولم يتكبد القاضى عناء النظر إلى حقيقة أنى كنت أملك حينها أظافر طويلة مصقولة».
«كم كان متفائلاً من انتظر العدالة من القضاة! لم يلتفت القاضى إلى نعومة يدى بشكلٍ لا يليق بامرأة رياضية، أو مُلاكِمة بالتحديد.. البلد الذى زرعتِ فىّ حبه لم يكن يبادلنى الحب، ولم يساعدنى أحد وأنا تحت ضربات المحقق أسمع أحط ألفاظ السباب، وحين تخلصت من آخر علامات الجمال الباقية فى جسدى بحلاقة شعرى أعطونى مكافأة.. أحد عشر يومًا فى الحبس الانفرادى».. هذه التى أرادوا استخدامها كبعير لا يمكن أن تُنسى، إنها أنثى خصها الله بذلك.. حاولوا أن يجعلوا منها ذكرًا متخلفًا، وحشى التفكير والعمل مثلهم، بعد أن فشلوا أن يغتالوا أنوثتها.. ترى هى أظافرها الجميلة التى لا يراها القاضى الأعمى الذى لا يرى إلا ما جبلته عليه الأنظمة الديكتاتورية من أن المرأة بهيمة ومشاع مجانى للرجال، وإلا صارت رجلًا قاتلًا فى نظر العرف والقانون مادامت فازت بالحياة!
«عزيزتى لا تبكِ مما تسمعين.. فى أول يوم لى فى مركز الشرطة آذانى ضابط كبير السن وغير متزوج بسبب أظافرى، عرفت حينها أن الجمال ليس من سمات هذا العصر: جمال المظهر، وجمال الأفكار والأمنيات، وجمال الخط، وجمال العيون والنظر، وحتى جمال الصوت العذب».. هل هناك بساطة أعظم من ذلك لخصت أوضاع كل العصور التى جعلت من الحكام آلهة، ورجالهم أنصاف آلهة.. ريحانة وهى بين حصار الموت لم تنسَ ما خصها الله به، إنها امرأة، رغم كل مظاهر بطش الدولة الديكتاتورية.. هل هناك خضوع لله سبحانه وأداء لرسالته أعظم من هذا؟
« لكن - يا أمى - وقبل أن أموت، أريد أن أطلب منكِ أمرًا يجب عليكِ تلبيته بكل ما تستطيعين من قوة، وبأى طريقة فى مقدورك.. هذا فى الحقيقة الأمر الوحيد الذى أريده من هذا العالم، ومن هذا البلد، ومنكِ.. أعلم أنكِ تريدين وقتًا لإعداده، إنه الأمر الوحيد الذى لن أغضب إذا اضطررتِ إلى أن تتوسلى من أجله، رغم أنى طلبت منكِ عدة مرات ألا تتوسلى إلى أحد لينقذنى من الإعدام.. لا أريد أن أتعفن تحت الثرى، لا أريد لعينىّ أو لقلبى الشاب أن يتحول إلى تراب.. توسّلى لهم ليعطوا قلبى، وكليتى، وعينى، وعظمى، وكل ما يمكن زرعه فى جسد آخر، هدية إلى شخص يحتاج إليها بمجرد إعدامى.. لا أريد لهذا الشخص أن يعرف اسمى، أو يشترى لى باقة من الزهور، ولا حتى أن يدعو لى.. أقول لكِ من أعماق قلبى إننى لا أريد أن أوضع فى قبر تزورينه، وتبكين عنده، وتعانين، لا أريدكِ أن تلبسى ثوب الحداد السوداء، ابذلى ما فى وسعكِ حتى تنسى أيامى الصعبة.. اتركينى لتبعثرنى الريح».
إنه الطلب العظيم الذى ترى به «ريحانة» المعنى الحقيقى للحياة.. أن تدب روحها فيمن قد يفتقد الحياة.. الخلود الذى أرادوا لها أن تخرج منه لتكون جثة حية وميتة.. الثقة أن ما فى روحها من روح الله سيستمر.. ستترك لهم الجسد يأكله دود الأرض الذى لا يختلف عنهم، لكنها ستسمو فى أجساد جديدة.. رغبة سيعرفها الطغاة أنها أكبر منهم، ولن يحققوها لها، أو قد تأخذهم الغفلة والغباء وينفذونها وهم لا يدرون أن روحها ستستمر محلقة فى السماء حتى بعد زوال اسمها وجسدها من الوجود.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة