الحزن يفضح الذاكرة، فيعود وحده: روحه من قش ورماد وبعض الندى، قلبه من صديد وجرح وحنين، لا خيول ولا بيارق وجسد يابس تتقاذفه ريح الفجيعة، تبدل الأجساد أسماءها، وكان له صبوة وقبضة من العصافير، بين كفيه متسع للألم المباغت، متدثرا بمطر غامض وفراش من رماد، وبيت مراوغ يؤاخى بين جسده والبحر وبخار الماء وقيظ الظهيرة: كل ما سوف يحدث قد حدث وانتهى وقضى الأمر منذ حوالى عشر سنوات؛ تبدأ الآن كتابة الحكاية بعد عشر سنوات من حدوثها، لكن لابد من الحكاية منذ البداية كما لو كانت قد بدأت تحدث لتوها الآن أمامكم، وسوف تبدأ فى الحدوث منذ هذه اللحظة، وهى كل ما رأيته وكل ما سوف يراه الجميع، ولابد من حدوثها أمام الجميع منذ هذه اللحظة، وأنا لا أملك سببا واحدا لحكايتها كما عاشها أصحابها. ولعلم الجميع فإنه لا يوجد أحد غيرى يستطيع حكايتها لأنى كنت الشاهد الوحيد على ما حدث: الشاهد الوحيد الذى يمتلك من البجاحة والتهور على أن يجعل الجميع يروا كل ما حدث، وبما أنى قد أعلنت منذ البداية أنى أفتخر ببجاحتى وتهورى وبشهوتى التى بلا حدود للحكى، واستكمالا لاستمتاعى بشهوة الحكى فلن أكذب وأدعى أنى أنا الوحيد الذى سوف أحكيها، وأجد لزاما علىّ منذ البداية أن أعلن صراحة وبوضوح بوجود «شخص آخر»، ودعونا منذ البداية نطلق عليه هذا الاسم «شخص آخر»، فأنا من أطلق عليه هذا الاسم لأنه هو نفسه لا يملك اسما يميزه، كما أنه لا يستطيع أن يعلن اسمه - إن كان لديه اسم - فقد قرر أن يعطى نفسه الحق فى تصويب أخطائى والرد على أكاذيبى، كما أنى أمنح نفسى هذا الحق فى تصويب أخطائه والرد على أكاذيبه التى كنت أجد نفسى مندفعا إليها لمجرد استكمال الشكل الروائى داخل هذه المسرحية، فأخطاؤه هى أخطائى وأكاذيبه هى أكاذيبى بشكل أو آخر؛ فقد قرر «شخص آخر» أن يواجهنى دائما بالحقيقة كما حدثت بالضبط، ويدفعنى دائما للالتزام برؤية حقيقية - من وجهة نظره على الأقل - وتفسيرا صادقا لكل ما حدث، و«شخص آخر» لم يره أحد ولم أره أنا نفسى، لكنى أشعر به دائما يعيش معى وفى بعض الأحيان يسيطر على ويدفعنى لقول كل ما يريد، فهو الذى قرر أن تكون هذه الرواية استحضارا واضحا وصريحا للشكل المسرحى البريختى الذى يقوم على فكرة أن المتفرج هو العنصر الأهم فى تكوين العمل الدرامى، فمن أجله ومن أجل الجميع طبعا تقدم هذه الرواية، التى كنت أريدها مسرحية آملا فى أن تثير لديكم التأمل والتفكير فى الواقع، واتخاذ موقف ورأى من القضية المتناولة هنا - إذا كانت ثمة قضية من الأصل - معتمدا على هدم «الجدار الرابع» وجعل المتفرجين مشاركين فى كتابتها بما لم أستطع أنا كتابته وبما لم يستطع «شخص آخر» كتابته هو أيضا، وذلك لأسباب يخفيها كل منا عن الآخر، بحيث يكون «الجدار الرابع» معناه أن خشبة المسرح التى يقف عليها الممثلون، ويقومون بأدوارهم، تشبه غرفة من ثلاثة جدران، و«الجدار الرابع» هو جدار وهمى وهو الذى يقابل المتفرجين، وكذلك يقوم الشكل المسرحى «البريختى» على التغريب الذى هو تغريب الأحداث اليومية العادية، أى جعلها غريبة ومثيرة للدهشة، وباعثة على التأمل والتفكير كما يقوم على المزج بين الوعظ والتسلية، أو بين التحريض السياسى وبين السخرية الكوميدية، وكذلك استخدام مشاهد متفرقة فى ديكورات مختلفة مع استخدام «الكورس» كمقدمة لكل مشهد والموسيقى التصويرية كمؤثرات صوتية فى فاصل موسيقى قصير ومكثف يسبق تغيير الديكور بين المشاهد، وكذلك تغيير الديكور داخل المشهد الواحد، وسوف نستكمل الاعتراف لاحقا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة