د. عمار على حسن

خرائط الدم والنار (2)

الأربعاء، 15 أكتوبر 2014 11:49 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تعددت الأسباب التى أدت إلى خروج «الراديكاليين الإسلاميين» من مصر، فمنها ما تعلق بالضغوط الأمنية الشديدة، ومنها ما ارتبط بالحاجة الاقتصادية، سواء كانت شخصية، أم كانت من أجل الإنفاق على التنظيمات والجماعات من خلال ضمان مصادر ثابتة للتمويل، ومنها ما ارتبط بأبعاد فكرية، لتأدية فريضة الجهاد، أو البحث عن «ساحة» لإعداد العدة، والوصول إلى حد «التمكن» الذى يؤهل هذه الجماعات للقدرة على منازلة الدولة بكل ما لها من مصادر قوة.
وهناك كذلك أسباب تعلقت بترتيبات معينة داخل هذه الجماعات وتلك التنظيمات، أهمها حدوث انشقاق فى صفوف «الجماعة الإسلامية الجهادية»، حيث تمايزت فى جماعتين بعد صدور الأحكام فى قضية الجهاد لعام 1981، حيث تسبب هذا الانشقاق فى إحباط عدد كبير من أعضاء التنظيم حيال إقامة الدولة الإسلامية المنتظرة، لأن انقسام الصفوف كان معناه فى نظرهم تأخر تحقيق هذا الهدف، ومن ثم فضل الكثيرون من هؤلاء السفر إلى الخارج.
وفى صيغة تعيد إلى الأذهان ما انتهجته جماعة الإخوان المسلمين حيث هاجرت أعداد غفيرة تنتمى إليها خلال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم فرارا من حكم عبدالناصر، الذى ناصبهم العداء، نجد أن الهجرة خارج مصر لم تكن فى البداية محببة لدى حتى أكثر هذه الجماعات تشددا. فتنظيم الجهاد نفسه، الذى لجأ إلى الهجرة أكثر من غيره خلال عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، كان يرفض هذه المسألة فى البداية، الأمر الذى يعبر عنه عبدالسلام فرج، الذى كان كتابه «الفريضة الغائبة» بمثابة المرجعية الفكرية لهذا التنظيم، حين يقول: «هناك من يقول إن الطريق لإقامة الدولة الإسلامية هو الهجرة إلى بلد آخر وإقامة الدولة الإسلامية هناك ثم العودة مرة أخرى فاتحين، ولتوفير جهد هؤلاء فعليهم أن يقيموا دولة الإسلام بينهم، ويخرجوا منها فاتحين». لكن تبدل الظروف دفعت أفراد التنظيم وغيره من التنظيمات والجماعات الإسلامية إلى الفرار من مصر، بطرق مشروعة، وغير مشروعة.
وتمثلت الخطوات الأولى لحركة الخروج فى الهجرة داخل مصر، أى ترك وادى النيل والهروب إلى الصحراء أو إلى مكان محدد يقتصر على أفراد الجماعة، من أجل تأسيس مجتمع جديد أو بديل، على غرار «مجتمع يثرب»، كما توهم بعض أتباع «جماعة المسلمين»، الذين أطلق على تنظيمهم اسم «التكفير والهجرة»، نظرا لأنه اتبع تكفير المجتمع بهجرانه، بدعوى أنه بيئة غير صالحة بالنسبة لأعضاء التنظيم. وقد جسد يحيى هاشم، الذى كان يعمل وكيلا للنيابة وترك وظيفته بدعوى أنها «حرام شرعا» بعد أن انضم إلى جماعة شباب محمد، هذه المسألة فى تحركاته، فقد لجأ إلى هضبة البحر الأحمر المواجهة للمنيا يحتمى بها ويعد عدته للصدام المسلح مع السلطة أو شن حرب عصابات ضدها، ولكن أجهزة الأمن تمكنت من تحديد مكانه وأتباعه، وداهمته، وقتلته. وعموما فإن الهجرة داخل مصر قد فشلت لأسباب عديدة، أمنية وجغرافية وتنظيمية، مما جعل أذهان الجماعات المتطرفة تتجه إلى الخروج من مصر.
وها هو وحيد عثمان أحد أمراء «جماعة المسلمين»، التى ابتدعت مسألة الهجرة الداخلية، يتحدث فى التسعينيات عن الهجرة الخارجية بوصفها «مرحلة حتمية» بالنسبة لجماعته، إذ يقول: «لسنا مطالبين بالجهاد إلا بعد إتمام الهجرة.. الهجرة إلى أرض يحكمها حاكم عادل حتى ولو كان كافرا.. ونحن نجزم أن البلاد العربية كلها لا يوجد فيها هذا الشرط.. ولذلك فالهجرة متاحة فى بلاد أوروبا مثل السويد والنرويج وغيرهما.. وحاليا جميع أرض الله متاحة للإخوة الهجرة إليها.. لكن الهجرة الجماعية كما حددها الإمام المرحوم شكرى مصطفى مكانها محفور ومنقوش فى صدور الإخوة.. إنها أرض اليمن، لأنها أرض الحكمة، وهناك العديد من أتباعنا ومن الإخوة يعبدون الله فيها، ويعملون وينشرون الدعوة بحرية كاملة، لذلك فإن حاكمها على كفره عادل». وقبل أن يتولى وحيد عثمان أمر هذه الجماعة، هاجر أميرها السابق وهو محمد الأمين عبدالفتاح وكنيته أبوالغوث، وهو الذى قام بتجميع فلول الجماعة بعد إعدام مؤسسها شكرى مصطفى، إلى أحد البلاد العربية، واستقر بها، ثم بدأ يساعد أفراد الجماعة على الهجرة إلى العديد من الدول العربية والأوروبية.
ولم يكن أبوالغوث هو أول من نادى بالهجرة الخارجية داخل «جماعة المسلمين»، فقد سبقه إلى ذلك الدكتور صلاح الصاوى، الذى انشق على شكرى مصطفى إثر اعتراضه على قرار الأخير بقتل وزير الأوقاف الأسبق الشيخ الذهبى، لأنه أدى إلى كشف التنظيم أمام أجهزة الأمن. فالصاوى كان مطلوبا القبض عليه فى أحداث سبتمبر عام 1981، لكنه تمكن من الهرب إلى اليمن، وهناك التقى بأحد شيوخ القبائل، وكان ينتمى إلى «الإخوان المسلمين»، ثم اقتنع بفكر الصاوى، وبات يقدم دعما للجماعة على قدر استطاعته. أما الصاوى فقد تنقل بين مصر والسعودية وباكستان، التى عمل بها أستاذا بالجامعة الإسلامية.
وسلك حسن الهلاوى، الذى كان رفيق الصاوى فى الانشقاق على شكرى مصطفى، المسلك نفسه، فهاجر إلى المملكة العربية السعودية، بعد أن نجح فى الهرب من حكم صادر ضده عام 1977 بالسجن سبع سنوات، لكن مصر تمكنت من تسلمه عام 1993، وعاد ليقضى عقوبة السجن لاتهامه فى عملية «الفنية العسكرية»، ومقتل المقدم عصام شمس خلال أحداث مسجد آدم بحى عين شمس فى القاهرة عام 1989.
وبذلك تشكلت «الموجة» الأولى لهجرة الإسلاميين الراديكاليين خارج مصر، وقد تمت، فى الغالب الأعم، تحت وطأة الظروف الأمنية القاسية، التى مرت بها «جماعة المسلمين» وجماعة صالح سرية، بعد أن اكتشفت أجهزة الأمن أمر هاتين الجماعتين، وراحت تتعقب المنتمين إليهما. ولم تقتصر الهجرة على أتباع هاتين الجماعتين، بل نجد أن العديد ممن ينتمون إلى التيار التكفيرى بوجه عام والسلفيين وبعض عناصر تنظيم الجهاد قد هاجر إلى العراق واليمن والسعودية، بحثا عن الأمان والرزق فى آن واحد. لكن هؤلاء المهاجرين لم يغب عن أذهانهم أن عدوهم الأساسى هو النظام الحاكم فى مصر، ولم تتعد أمانيهم إزاحة هذا النظام وإسقاطه، والقفز إلى سدة الحكم.
أما الموجة الثانية للهجرة فقد صنعتها تجربة «الجهاد الأفغانى»، بكل تداعياتها الإقليمية والدولية، ولعبت فيها الولايات المتحدة، التى وجدت فى تورط موسكو فى أفغانستان فرصة سانحة لاستنزاف قدرات منافسها التقليدى آنذاك وهو الاتحاد السوفيتى، دورا مهما فى إيجاد هذه الموجة. فواشنطن قررت وقتها «نسج علاقة بين المخابرات الأمريكية والجماعات الإسلامية، ليست العاملة فى الساحة الأفغانية فحسب، إنما أيضا تلك التى تعمل فى مناطق أخرى بهدف توجيه كل الجهود لمقاومة الاحتلال السوفيتى للأراضى الأفغانية.. وتم افتتاح أول مركز لاستقبال المتطوعين الراغبين فى السفر إلى أفغانستان بولاية نيويورك بواسطة مصطفى شلبى، الذى استضاف الشيخ عمر عبدالرحمن فى أمريكا بعد ذلك، وحسبما تشير المعلومات فإن هذا المركز وفروعه، التى بلغت 17 فرعا فى أمريكا، لعب دورا مهما فى سفر مواطنين عرب هاربين من بلادهم إلى أفغانستان».

وبات من المتداول بين الإعلاميين والباحثين ورجال الأمن والساسة أن الرئيس السادات قد تعاون مع الولايات المتحدة فى هذا التوجه تماما، بعد أن أقنعه الأمريكان بأن مباركته لتجربة الجهاد الأفغانى ستزيد من أسهم مصر إعلاميا ودبلوماسيا فى العالم الإسلامى، بما يعوضها عن القطيعة العربية التى نجمت عن توقيعها اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل. كما سيتيح ذلك لمصر التخلص من ترسانة الأسلحة القديمة ببيعها إلى المجاهدين الأفغان، الذين كانوا يتلقون دعما سخيا من الدول العربية النفطية، علاوة على أموال صندوق دعم الجهاد الأفغانى الذى أنشأته الولايات المتحدة، وكذلك حصيلة الاتجار فى المخدرات.
«ونكمل غدا إن شاء الله تعالى».








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة