نستهدف من بيان قضية «التصوير واقتناء الصور» كشف مخطط الوصاية الدينية الذى يتوارثه الانتهازيون ويتواصون به لبقاء إحكام قبضتهم على عموم الناس بما يحبون من ربهم فى مسائلهم الشخصية ومنها قضية التصوير؛ ليجمعوا مع هدف السيطرة المجتمعية رغد العيش باعتلاء منازل التوقير والتقديس وتلقى الهبات اللائقة بمنصب «المتحدث الرسمى عن الله، أو وكيل أعماله فى الأرض» فلا يسألهم أحد عن أعمالهم وهم يسألون الناس ويؤاخذونهم ليس عن ظلم بعضهم لبعض فى معاملاتهم المالية أو الحياتية، وإنما عما جعله الله واسعًا فى دينه فأظهروه على الضيق والحرج، واصطادوا بهذا المكر الخبيث كثيرًا من الأتباع الذين ظلموا أنفسهم عندما فقدوا الثقة فى طمأنينة قلوبهم وقناعة عقولهم فسلموا وجوههم لظالميهم من دون الله الذين حرموهم حق الاختيار الفقهى والدينى المكفول لكل عاقل فى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فخسروا الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا» (النساء:97).
وحتى نثبت للقارئ الكريم أن قضية «التصوير واقتناء الصور» من المسائل التى يتسع فيها الخلاف، وأن دين الله لم يأت لتعقيد الناس أو التضييق عليهم بالحرج فيها أو غيرها، فكل إنسان وقناعته فى فهم النصوص الشرعية وتوجيهها، ويكون أكثر توفيقًا إن اطلع على علم السابقين التراكمى، ولا يجوز لعاقل أن يكون أسيرًا لقناعة غيره وإن منح هذا الغير نفسه صفة «رجل الدين» أو «حامى الدين» أو «حارس العقيدة»؛ لأن تلك الألقاب إن صحت فهى حق لكل عاقل على نفسه وليست حقًا لأحد على غيره. لذلك فإننى بعد ذكر تعريف التصوير وأنواعه عملًا بالقاعدة المنطقية «الحكم على الشىء فرع عن تصوره» انطلقت إلى حصر الأدلة الشرعية الواردة فى التصوير قبل بيان مذاهب الفقهاء فى تأويلها؛ لتمكين إقامة الحجة على أوصياء الرأى الفقهى الواحد، وقسمت تلك الأدلة إلى قسمين أحدهما جمعت فيه النصوص التى تدل بظاهرها على مشروعية التصوير فى الجملة، والتى سبق ذكرها.
ونبين فيما يلى القسم الثانى من تلك الأدلة التى تفيد بظاهرها عدم مشروعية التصوير كليًا أو جزئيًا فى الجملة، وهى كما يلى:
(1) أخرج الشيخان عن عائشة، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها «مارية» فيها تصاوير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله».
(2) أخرج البخارى عن عائشة قالت: حشوت للنبى صلى الله عليه وسلم وسادة فيها تماثيل كأنها نُمرُقة (وسادة صغيرة) فجاء فقام بين البابين، وجعل يتغير وجهه. فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: «ما بال هذه الوسادة»؟ قالت: وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها. قال: «أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، وأن من صنع الصورة يُعذَّب يوم القيامة يقول أحيوا ما خلقتم».
وفى رواية أخرى للشيخين عن عائشة قالت: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت بقرام لى (القرام ستر رقيق من صوف ذو ألوان) على سهوة لى (السهوة تشبه الرف أو الخزانة الصغيرة يوضع فيها الشىء) فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هتكه وقال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله»، وفى رواية لمسلم: «الذين يشبهون بخلق الله». قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين. وأخرج مسلم عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزاته فأخذت نمطًا فسترته على الباب (النمط ستر رقيق يستشف ما خلفه)، فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية فى وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه، وقال: «إن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين». قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفًا، فلم يعب ذلك على. وفى رواية أخرى لمسلم عن عائشة قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت على بابى دُرنُوكًا فيه الخيل ذوات الأجنحة، فأمرنى فنزعته. (والدُرنُوك نوع من البسط له خمل قصير).
(3) أخرج الشيخان عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من صور صورة فى الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ». كما أخرج الشيخان عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم». وأخرج البخارى عن عائشة أنها اشترت نُمرقة (وسادة) فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله، فعرفت فى وجهه الكراهية، فقالت: أتوب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ماذا أذنبت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال هذه النمرقة»؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم أحيوا ما خلقتم». وقال: «إن البيت الذى فيه الصور لا تدخله الملائكة».
(4) أخرج البخارى عن أنس قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «أميطى عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض فى صلاتى». وعند أحمد بلفظ: «تعرض لى فى صلاتى».
(5) أخرج أبو داود بإسناد حسن عن سفينة أبى عبد الرحمن، أن رجلًا أضاف على بن أبى طالب فصنع له طعاما، فقالت فاطمة: لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا. فدعوه فجاء فوضع يده على عضادتى الباب، فرأى القرام قد ضرب به فى ناحية البيت، فرجع فقالت فاطمة لعلى: ألحقه فانظر ما رجعه؟ فتبعته فقلت: يارسول الله، ما ردك؟ فقال: «إنه ليس لى أو لنبى أن يدخل بيتًا مزوقًا».
(6) أخرج الشيخان عن أبى زرعة قال: دخلت مع أبى هريرة فى دار مروان فرأى فيها تصاوير، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقى، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة».
(7) أخرج الشيخان عن أبى طلحة الأنصارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة تماثيل إلا رقمًا فى ثوب». وفى رواية أخرى لمسلم عن أبى هريرة بلفظ: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه تماثيل أو تصاوير».
(8) أخرج الشيخان عن مسروق أنه كان فى دار يسار بن نمير فرأى فى صُفَّته تماثيل، فقال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون».
(9) أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح وهو بمكة: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام».
(10) أخرج أحمد عن عبد الله بن مسعود، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبى أو قتل نبيًا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين».
(11) أخرج البخارى عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم - أى مكة - أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل فى أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله. أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط»، فدخل البيت فكبر فى نواحيه ولم يصل فيه. وفى رواية أخرى للبخارى عن ابن عباس قال إن النبى صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور فى البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال: «قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط».
(12) أخرج البخارى عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب بعد. أما «ود» كانت لكلب بدومة الجندل، وأما «سواع» كانت لهذيل، وأما «يغوث» فكانت لمراد ثم لبنى غُطيف بالجوف عند سبأ، وأما «يعوق» فكانت لهمدان، وأما «نسرا» فكانت لحمير لآل ذى الكلاع. أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عبدت.
(13) أخرج مسلم عن أبى الهياج الأسدى قال: قال لى على بن أبى طالب: ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا أدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها.
ثالثًا: مذاهب الفقهاء فى تأويل النصوص الشرعية الواردة فى قضية «التصوير واقتناء الصور»، وبيان اختلافهم فى كيفية الجمع بين تعارضها. وللحديث بقية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
شكرا لك - لن اناقشك بعد اليوم - اكتب ما يحلو لك - ليس هدفى اثارتك او التقليل من علمك
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
M.mohamed
طالما كل واحد وقناعته فى فهم النصوص الشريعه.....يبقى ايه لزوم كليات الشريعة