أول مرة سمعت فيها كلمة «دستور» كانت فى طفولتى بالقرية جناج مركز بسيون غربية، وقبلها مركز قلين فؤادية!.. وكان يقولها من يمتطى حماره ويمر على من هم أكبر منه مقاما وعمرا، ولا تسعفه لياقته البدنية على الترجل من فوق الحمار، فيبادر برفع يديه الاثنتين بالقرب من رأسه ويصيح: «دستور يا حضرات.. أو دستور يا حضرة العمدة». وقد تبينت أن الكلمة تعنى فى هذا المقام: «بإذنكم.. سامحونى»، وكانت الكلمة تتردد أيضا عندما كانت زوجة أحد أقاربى تشتد عليها حالة المعاناة من الجن الذين يسكنون جسدها، وكانت تصرخ ويتفصد العرق من خلاياها، ويتمايل جسدها بعنف من أصوات غريبة ما بين الحشرجة وبين الزفير العنيف، وكانت بعض قريباتى يتحلقن حولها صائحات «دستور يا أسيادنا»، وذات مرة تطوعت إحداهن للتكبير وقراءة بعض الآيات القرآنية فى أذن تلك الممسوسة أو المركوبة، فإذا بالحالة تتفاقم وتشتد وإذا ببعضهن يضعن أيديهن على فم تلك المتطوعة لإسكاتها لأن العفريت الجنى كان مسيحيا، ولذلك كانت صاحبتنا تلبس سلسلة ذهبية يتدلى منها صليب حول عنقها، وكانت لا تسمح بوجود سجادة للصلاة فى غرفتها، وكانت تذهب إلى إحدى الكنائس فى قرية قريبة من بلدنا لعل وعسى أن يستطيع أبونا ميخائيل التصرف مع ذلك الجنى.. وظلت تلك المرأة تعانى من المشكلة حتى رحلت وهى تئن من تصلب عضلاتها وأصابعها!!
وكبرت إلى أن تخرجت وانتهيت من دراسة السنة التمهيدية للماجستير بقسم التاريخ بآداب عين شمس، ثم فاجأنى أستاذى الجميل الراحل أحمد عبدالرحيم مصطفى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بقوله: «يا واد.. عمنا وعمك الكبير عاوزك تسجل معاه.. وأنت عارف أنه لا يسجل معه سوى طلبة الدكتوراة، ولكنه معجب بك ويريدك أن تسجل معه الماجستير»، وفى مساء أحد أيام الخميس حيث كانت تنعقد حلقة السمنار بمقر القسم بالكلية برئاسة عمنا الأكبر الدكتور أحمد عزت عبدالكريم، نودى على المذكور كاتب هذه السطور لمقابلته قبل أن تبدأ الحلقة النقاشية الأسبوعية «السمنار»، وباقتضاب شديد وفيما هو يمرر حبات مسبحته «التلت»، ثلاث وثلاثين حبة، وكانت من اليسر المطعم بالفضة، ألقى تعليماته: «سوف تسجل معى فى موضوع دستور صدقى باشا من 1930 إلى 1935 وتبدأ فى جمع المادة على طول»!
كان إسماعيل باشا صدقى قد ألغى دستور 1923 واستبدل به دستورا حمل اسمه وحكم به حكما «أوليجاركيا»، ولم تكد تمر عدة شهور حتى فوجئت بأستاذى الكبير يغير رأيه! ففيما كنت أقرأ له فصول مشروع رسالة الدكتوراة التى قدمها عبدالكريم أحمد، وكان عنوانها «القومية والمذاهب السياسية»، وكنت قد توليت القراءة له لضعف بصره وأذهب إلى منزله فى 8 شارع لطفى منشية البكرى، حيث تتجاور ثلاث فيلات، واحدة له والثانية لشقيقه الفريق أول على عبدالكريم، والثالثة لشقيقه الثالث الأصغر العميد سعد زغلول عبدالكريم قائد الشرطة العسكرية، وأصل فى الثامنة صباحا وأجلس على كرسى تحت تكعيبة العنب إذا كان الجو صيفا، وفى الفراندة إذا كان الشتاء، ثم يخرج هو مرتديا ملابسه الكاملة، وبعد قليل تأتى القهوة.. فنجان وحيد طول الفترة الممتدة من الثامنة حتى الواحدة وأنا أقرأ بصوت عال قراءة منهكة أراعى فيها أن تكون مخارج حروفى واضحة وعربيتى سليمة، وإذا انتقلت من المتن إلى الهوامش أشير إلى ذلك، ثم أجتهد أن يكون نطقى للمصادر والمراجع الأجنبية فى الهامش نطقا إنجليزيا أو فرنسيا سليما!.. وكان رحمة الله عليه لا يتورع عن أن يسألنى وأنا أقرأ وهو يستمع للفصل الرابع مثلا: «هو الفصل الثانى كان بيتكلم عن إيه؟!!»
المهم.. ذات صباح فوجئت به يقول: أريدك أن تترك دستور صدقى، وتبدأ فى موضوع جديد هو الإمام محمد عبده وإصلاح الأزهر، خاصة أن بحثك فى السنة التمهيدية عن كتاب الإسلام وأصول الحكم ومحاكمة على عبدالرازق أمام هيئة كبار العلماء كان بحثا ممتازا! ولم أنبس ببنت شفة.. وشددت الرحال إلى محمد عبده والأزهر لأكتشف بعد فترة أن أستاذى كان ضمن مجموعة العلماء التى كلفت بإقامة الاحتفالية الكبرى بمرور ألف عام على الأزهر، وكان يود أن يحضر له أحد مادة علمية تناسب الاحتفالية، وكنت ذلك الأحد الذى أهدر جهد جمع مادة دستور صدقى لينتقل إلى جمع مادة عبده والأزهر!! ومضيت إلى أن شاءت أقدارى أن أتوقف عن هذا، وذاك بالقبض على فى أحداث يناير 1977، ولأرسل رسالة لأستاذى وأنا فى ليمان أبوزعبل، وعرفت أن الرسالة وصلته وكان الذى حل محلى فى القراءة له زميل اسمه حسن مرسى، وعرفت أنه عندما بدأ كالعادة المتبعة التى كنت أقوم بها قبله بفتح «البوسطة» الواردة للأستاذ الكبير فوجئ برسالة مختومة من الخارج بختم مكتوب عليه «ليمان أبو زعبل» وأمره الدكتور عزت بفتحها، وإذا بالورقة التى بداخلها مختومة بدورها من الأعلى والأسفل، وعلى الجانبين بالختم نفسه، والتوقيع من تحت بأحمد الجمال.. وفيها قلت على ما أتذكر إننى أعتذر عن إهمالى فى الرسالة وعن دخولى السجن، وأنه ربما يغفر لى عند أستاذى أنه ربما يأتى يوم يقوم فيه باحث شاب ببحث عن الحركة الوطنية المصرية فى السبعينيات، وقد يشير إلى اسمى ولو فى هامش من الهوامش لأكون بذلك قد انتقلت من كتابة التاريخ إلى صنع التاريخ!! وعرفت أيضا أن أستاذى بعد أن فرغ من سماع الرسالة سأل حسن مرسى: معك كبريت، ورد حسن بالإيجاب، فأمره بإشعال النار فى الرسالة «الورقة والمظروف» وأمره ألا يذكر الواقعة لأحد!
كنت قبل حكاية دستور صدقى وإصلاح محمد عبده قد عشت فترة إصدار دستور 1971 الذى أصدره السادات بعد أن ثبت دعائم حكمه، إثر أحداث 15 مايو 1971 التى أسماها السادات «ثورة التصحيح»، ووضعها جنبا إلى جنب «ثورة يوليو» وجعل الإيمان بها شرطا مؤهلا للعمل السياسى الرسمى، وأذكر أننا كنا مجموعة مشاغبة سياسيا فى جامعة عين شمس، وأننا عقدنا ندوات وحلقات نقاش عن ذلك الدستور، وهاجمنا أنور السادات باعتبار أننا كنا نعتبر أنفسنا حماة الناصرية ويوليو، وأن 15 مايو ثورة مضادة أو بالأصح فعل مضاد للثورة، لأن الثورة بحكم الحتمية لا يمكن أن تكون مضادة!! وفتحنا النيران الكلامية على السادات لدرجة أنه عندما استدعانى الأستاذ هيكل فى سبتمبر 1973 ليقول لى إن السادات يود أن يرانا ويجتمع بنا، وأن كمال أبوالمجد سيأخذنا إليه فى برج العرب، أضاف الأستاذ هيكل فى استطرادة شديدة الإيجاز: «وخللى بالك يا عبقرى أن السادات بيعتبركم أحقر مجموعة تمارس السياسة فى مصر وأنكم بتقضبوا بالليبى..»، «دول بيقبضوا بالليبى يا محمد». فى دستور 1971 كانت سلطات رئيس الجمهورية تكاد تكون أوسع وأشد من السلطات الإلهية، ووصلت المواد المتصلة بسلطاته على ما أتذكر إلى ما يقرب من ثلث مواد الدستور، ورغم أن السادات تشبث بأن ثورته التصحيحية كانت من أجل الحريات ومن أجل تصفية الحراسات، ومن أجل سيادة القانون ودولة المؤسسات، ورغم أن دستور 1971 كان فيه نقلة مهمة فى هذا الاتجاه فإن واقع الحال وحتى نهاية حكم السادات باغتياله كان مختلفا، لأن الرئيس كان مغرما بمجموعة أمور تتصادم مباشرة مع حكاية الديمقراطية، والحريات، والمؤسسات! فقد كان السادات مغرما بتراث النازية لدرجة أنه صمم أن يرتدى هو ونائبه مبارك وقائد جيشه أبو غزالة ملابس قريبة جدا من ملابس هتلر وجنرالات النازية، مضافا إليها عصا المارشالية التى كان يمسك بها من منتصفها ويرفعها بذراعه اليمنى أمامه فى الهواء ليكون منظره جامعا بين هتلر وبين الفرعون!.. وكان السادات مغرما أيضا بأن يسمى ويسميه الناس «كبير العيلة»، وكبير العيلة فى الفلاحين وحسب تقاليد القرية التى لم يتوقف السادات عن الادعاء بأنه متمسك بها تقضى بأن يقبل الجميع يد الحاج كبير العيلة.. كما كان السادات مغرما بحكاية «العلم والإيمان» ويرتدى الجلباب والعباءة، ويحرص على تلميع جلد وجهه من حول زبيبة الصلاة الواضحة جدا.. يعنى باختصار شديد كان الرئيس يجمع فى شخصه بين الفوهرر والعمدة وكبير العيلة والمفوض من الله لتثبيت دعائم الإيمان! وانتهى به المطاف إلى أن يصطدم بالجميع ويأمر باعتقال ما يزيد على 1500 شخصية من مختلف المقامات فى ليلة واحدة ويحدد إقامة البابا فى الدير، ولم يعدم من يسمى له إجراءات الاعتقال ثورة خمسة سبتمبر 1981، وكان صاحب التسمية هو الراحل موسى صبرى!
وتسألنى عزيزى القارئ: «ماذا تريد أن تقول بعد هذا اللف والدوران من حكاية قرايبك والعفاريت، والنزول من على ظهر الحمار إلى رسالتك عن صدقى»، وأرد أننا اليوم نبدأ الاستفتاء على دستور 2014، وأتمنى أن تكون النتيجة كاسحة ماحقة، ولكن أقول أيضا إن العبرة بالتطبيق وبالواقع وبقدرة الناس على ممارسة حقوقهم والقيام بواجباتهم بوازع من أنفسهم وضمائرهم، وأنه مهما كانت الدساتير رفيعة الصياغة والمضمون، فإن بلدنا العظيم يثبت فى مسيرته التاريخية بأنه بقدر ما يستطيع أن يسخر من حاكمه وأن يغيره ويرميه فى مزبلة التاريخ إذا شاء، بقدر ما لديه القدرة على تأليهه وتقديسه وحفزه على الطغيان.. ويا خفى الألطاف نجنا مما نخاف.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
Reader
I agree
with your last line