أتمنى أن تكون هذه هى المرة الأخيرة التى يصاغ فيها دستور للأمة المصرية وللشعب المصرى.
وأتمنى لو أن اللجنة الموقرة التى تعيد صياغة أو تعديل الدستور الأخير وضعت فى اعتبارها السبب فى تغير وتغيير الدساتير المصرية لتعرف عمليًا كيف يجب أن تصاغ الدساتير.
والذى تسبب فى تغيير الدساتير المصرية هو أنه بعد ثورة يوليو 1952 ساد مصر نظام جديد هو النظام الجمهورى، ومن ثم كان لابد من تغيير الدستور ليناسب الوضع الجديد، لكن أيضًا وضعت فى الدستور مواد تكرس وضع الحكم العسكرى ما كان لها أن توضع، وكذلك تكرس للأوضاع الاجتماعية والسياسية الجديدة، وهى أوضاع متغيرة وعلى رأسها طبعًا عدم وجود أحزاب، ونسبة الخمسين فى المائة من مجلس الشعب للعمال والفلاحين وغيرها من النظام الاشتراكى. وكل ذلك تغير فى الدستور عام 1971 باستثناء نسبة الخمسين فى المائة التى لم يعد لها معنى الآن، وأضيفت إليه مواد أخرى عن تعدد الأحزاب.
حين جاء مبارك جرت أيضًا تعديلات دستورية، أشهرها ما يفتح الباب للتوريث فى الحكم، كل ذلك حوّل المبادئ الدستورية إلى حالة أقرب ما تكون إلى القوانين المتغيرة، والأمر نفسه جرى على دستور 2012 فقد استطاعت القوى الرجعية المتخلفة التى تسمى نفسها إسلامية أن تترك بصمتها بحيث تضيع كل فرص الحياة المدنية وكل فرص الآخرين من غير المسلمين، وغير ذلك مما كان محل اعتراض معروف ومشهور. ونظرة واحدة إلى كثير من مواد الدستور تجد أنه أقرب إلى القوانين أيضًا، أو تحيل المادة الدستورية إلى شىء يتحقق وفقًا للقانون، والأصل العكس، فالقوانين توضع وفقا للدساتير، إذن باختصار، صناعة دستور يخدم أوضاعًا قائمة هو مصدر القلق، ومصدر الضعف فى أى دستور.. لذلك ستشغلنى هنا اليوم مسألة مهمة سنرى كيف كانت مصدر قوة للأمة المصرية ومصدر وجود، وشيئًا صار يمشى مع الشخصية المصرية وفى روحها، وكيف حين ابتعدنا عنه طمست هويتنا وتعقدت وفقدت الكثير.
هذه المسألة تتعلق بهوية مصر، فالمادة الأولى تقول «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة وهى موحدة لا تقبل التجزئة ولا يتنازل عن شىء منها ونظامها ديمقراطى يقوم على أساس المواطنة والشعب المصرى جزء من الأمة العربية والإسلامية» وهذا كله لا خلاف عليه، لكن حضارتها الكبيرة جاءت من فرعونيتها عبر آلاف السنين ثم جاءت من العصر الهلينى أو السكندرى الذى كانت مصر فيه حاضرة العالم القديم، والإسكندرية عاصمته لسبعة قرون، ثلاثة منها فى العصر البطلمى وأربعة فى العصر الرومانى. هنا امتزجت الحضارة الفرعونية بالأوروبية، وهنا صارت مصر بلدا متوسطيا بامتياز.. بعد الفتح العربى لمصر وعبر عشرة قرون من السرقة والنهب والاستعباد لأهلها حتى كاد الشعب يباد، جاء محمد على فعاد إلى البحر المتوسط، وأرسل بعثات إلى أوروبا، وأقام ترعة المحمودية، فانتعش ميناء الإسكندرية، وهكذا استمر الأمر فى عصور أبنائه فقامت الدولة الليبرالية الحديثة، وصارت مصر منارة الشرق فى العلم والأدب والصناعة والزراعة والسينما والمسرح، وكل ما تجده أمامك إذا فتحت أى موقع إلكترونى بعنوان مصر زمان.
صارت مصر ملاذًا للناس من كل الدنيا، وعمت قيم التسامح التى عرفتها مصر فى العصر الهلينى القديم، ونزح إليها كل الأجناس والأديان وعاشوا فى سلام يبنون الحياة المصرية مع المصريين، ويتمصر الكثيرون منهم فى الوقت الذى تسافر فيه البعثات إلى أوروبا نفسها، وهكذا ذهابا وإيابا كان البحر المتوسط وحضارته هما رافد التقدم فى مصر على جميع المستويات، ثم حدثت فى مصر انعطافتان خطيرتان عن هذا المجال الحيوى فى التاريخ، الأولى مع ثورة 1952 وما تليها من توجه قومى، وهذه الانعطافة لم يكن تأثيرها السلبى كبيرًا على العلاقة مع المتوسط، فرغم الحرب بيننا وبين إنجلترا وفرنسا لم ينقطع التوجه العلمى والثقافى. كانت الانعطافة فى الديمقراطية التى تم تأميمها! والديمقراطية إنتاج متوسطى منذ دولة المدينة فى اليونان لكن الانعطافة الأخطر التى ندفع ثمنها حتى الآن هى انعطافة الرئيس أنور السادات، الذى أعلن عداءه للقومية وفكرتها. ولم يكن يدرى أنه حتى بدون هذا العداء فالفكرة فشلت منذ هزيمة يونيو 67، ولم يكن خلف الفكرة غير الديكتاتورية التى ستستمر فى بعض البلاد، مثل: العراق، وسوريا، وليبيا، وستدفع الشعوب ثمنها، لكن كان عداء السادات للقومية ستارة تخفى وراءها العداء الحقيقى للحضارة المتوسطية ومصر بينها.
رفع شعار الإسلام والأمة الإسلامية، والذى تلخص فى الخارج فى التعاون مع السعودية وأمريكا ضد الاتحاد السوفييتى فى أفغانستان وفى الداخل تعاون بينه وبين التيارات الإسلامية ضد اليسار المصرى والتيار المدنى، وفتح البلاد لثقافة البترودولار وللوهابية المتسلفة تغزو كل شىء، ابتداء من أسماء المحلات حتى طرق البناء، ناهيك عن التعليم، والصناعة، والزى، وغيرها. باختصار لوى السادات عنق مصر التى كانت على المتوسط إلى الجزيرة العربية التى بلا شك تربطنا بها اللغة والدين، لكن لم تكن يوما رافدا للتطور. لم يكن ذلك لعيب فيها لكنها كانت دائما متخلفة عن مصر، وكانت مصر هى أملها الكبير. اعتبر هؤلاء الدعاة الجدد للوهابية أن البحر المتوسط وما وراءه كفر وفجر، ومن ثم بدأ الهجوم على الثقافة والفن، وبدأ الهجوم على الصناعة وتشجيع التجارة والمقاولات، والاستهتار بالعلم والبحث العلمى، وصارت الآخرة هى هدف الدنيا، وتلخص وجود الإنسان فى مصر فى جلباب ولحية، والنساء فى حجاب أو نقاب، وتم تجريف كل منجزات العصر الحديث، منذ محمد على مادية وروحية. اختصرت العروبة والإسلام للأسف فى الجلباب واللحية والنقاب، وكان جهدها الأكبر فى الهجوم على الحضارة المتوسطية مصدر التقدم لمصر، عبر التاريخ منذ اندثار المرحلة الفرعونية.
أطلت فى الحديث من أجل أن أطلب إضافة جملة واحدة إلى المادة الأولى، جملة ستحقق لمصر ما كان لها من قبل من تقدم، وهى أن «الشعب المصرى جزء من الأمتين العربية والإسلامية، وكذلك جزء من قارة أفريقيا، وحضارة البحر المتوسط».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ثروت ابوالعنين
الدستور
عدد الردود 0
بواسطة:
ثروت ابوالعنين
الدستور
عدد الردود 0
بواسطة:
لم يري ماذا أنتفع الغرب بعلمنا . ولولا الفتح الاندلسي لكانوا لا سيتحمون اللا كل عام .. وم
العبيد اذا أمطرت السماء حريه ..فتحوا المظلات حتى لا تصقط عليهم أمطار الحريه