الأخلاق تظهر عند المحكات والحقائق تنجلى عند الشدائد والأزمات.. قاعدة تثبت المتغيرات والأحداث كل يوم مدى صحتها وإحكامها، لن يظهر حسن أو سوء خلق المرء ولن تُتبين حقيقته إلا عندما يختبر ذلك طالما هو فى رخاء والأمور طيبة ومستقرة فكيف سيعرف هل هو صبور قادر على تحمل الأذى أم ساخط غير مطيق للبلاء؟، وطالما هو فى مودة ووفاق مع غيره ولم يحدث أى اختلاف بينه وبينهم فمن أين سيعلم هل هو متعصب غضوب أم هو منصف قادر على الحوار والتفاهم، ومن أين سيدرك أنه سيـئ الأدب بذىء اللسان فاحش القول إن لم يوجد من يستفزه ويحرك مكامن تلك السلوكيات القابعة فى أعماق نفسه تنتظر تلك اللحظة التى تجد فيها من يحركها لتخرج بكل بشاعتها وقبحها.
نعم إنها الشدائد والمحن التى تظهر وتميز الدعيَّ من الحقيقى والكاذب من الصادق والمرائى من المخلص، إنها الابتلاءات التى تبين المعدن الحقيقى للإنسان، وهل هو يردد مجرد شعارات جوفاء ويتشدق بمبادىء صورية ويرتدى أخلاقا مزيفة، سرعان ما ينخلع عنها عند أول محك أم أنه فعلا يعتقد ما يقول ويمارس ما يدعو إليه «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ».
هذا المعنى من أهم وأدق معانى الفتنة وليس فقط ما يصر البعض على حصر الفتنة فيه من كونها التباس فى الرؤية وعدم وضوح الحق من الباطل، لكن الفتنة من مادة «ف. ت. ن» وأصلها فتن الذهب أى صَهَرَه فى النارِ ليختبره ويصفيه ليخرج وينبذ ما فيه من الخبث والشوائب، ويقال: فتنته النارُ بمعنى صَهَرتْهُ. وهذا هو ما نراه اليوم بكل وضوح فكم من ثوابت وشعارات ومبادئ توطأ بالأقدام ويلقى بها عرض الحائط لأن صاحبها ومرددها رسب فى الاختبار وسقط فى امتحان البلاء واختبار الضراء أو السراء؟.. كم أخلاقيات كانت يوما عنوانا للتسنن وعلامة على التمسك والالتزام صارت اليوم هباء منثورا بدعوى النضال والدفاع عن الحق؟، وأى حق هذا الذى يدافع عنه بالفحش وسوء الخلق؟ وأى نضال هذا الذى يكون عنوانه التنازل والتهاون فى الثوابت الشرعية والأخلاقية والفكرية؟ قديما قال الإمام الشافعى رحمه الله: جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصنى بريقـى.. وما شكرى لها إلا لأنى عرفت بها عدوى من صديقى.
إن الأزمات، والابتلاءات، وعدالة القضايا، وسلامة المقاصد ليست أبدا مبررات أو مرخصات للتنازل عن الثوابت والمبادئ الشرعية والأخلاقية، ومن كانت مبادئه وثوابته مرتبطة بمشاعره وردود أفعال مخالفيه وجودا وعدما فهى فى الحقيقة ليست مبادئ ولا ثوابت ولا أخلاق لكنها بالنسبة إليه مجرد شعارات يمتطيها وقت الحاجة وقد صح عن النبى قوله: «ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكنِ الواصلُ الَّذى إذا قُطِعتْ رَحِمُه وصلَها». والحديث معناه أن المرء حين يصل ما أمر الله به أن يوصل فإنه لا يفعل ذلك كمقابل أو مكافأة لمن يصلهم، ولكنه يفعله لأنه الصواب ولأنه قبل أى شىء يعامل الله وليس الناس. من فهم ذلك وجعله نصب عينيه سهل عليه معه أن يحسن ويصبر ويدفع السيئة بالحسنة، لكن من ظل الارتباط عنده بين أخلاقه وثوابته وبين حالته النفسية ومزاجه الشعورى وحبه أو بغضه فإنه لن يطيق أن يطبق ما يدعو إليه وستفضحه الشدائد وتعرى حقيقته الأزمات، وتظهر خبث سريرته الاستفزازات والملمات و«ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب» لذلك ورغم أن الأصل سؤال الله العافية تظل الشدائد كاشفة ومربية للجميع وتظل الابتلاءات مظهرة للحقائق والخبايا فجزاها الله كل خير.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة