محمد منير

الصيت ولا الغنى

الإثنين، 23 سبتمبر 2013 02:56 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بعيداً عن السياسة دعونا نتحدث قليلاً.

يقول المثل الشعبى المصرى "الصيت ولا الغنى"، فأن يكون معروفاً عنك الغنى أفضل من أن تكون غنياً بالفعل!

قد يرى بعض المتمنطقين فى هذا المثل غباءً مستحكماً، ولكن من يعش واقعنا يتأكد له مدى ذكاء وحكمة هذا المثل .

الصيت فى بلادنا غنى ما بعده غنى.. الزبائن تفضل الانتظار شهوراً للحصول سلعة من محل ذى مظهر وصيت وأبهة، أفضل من الحصول فى الحال على نفس السلعة وربما بسعر أرخص من محل يفتقد للصيت !

والصيت فى بلادنا أعمق من المثل الذى ذكرته، فالصيت صنع أبطالاً شعبيين وأسس فولكلوراً وطنياً ليس له أى سند من الأساس سوى الصيت.

أعشق سيرة أدهم الشرقاوى الذى عرفته منذ نعومة أظافرى من الأغانى وحكايات البطولة، وأنتشى دائماً بأغنية ملحمة أدهم للفنان محمد رشدى وأتماهى فيها، حتى إننى فى بعض اللحظات من لحظات الصبا أتقمص شخصه الفلكلورى، فأنزل فى حمالات مصطحباً بعض أصدقاء الصبا لتأديب أبناء الأغنياء فى شارعنا، وغالباً ما كان الأمر ينتهى بعلقة ساخنة من كل من هب ودب تعيدنى إلى رشدى وتزيل عنى تأثير محمد رشدى وتخرجنى من حالة التقمص الأدهمى.

أدهم فى التاريخ يا سادة مجرد قاطع طريق ولد فى آخر عام من أعوام القرن الـ19، امتهن قطع الطريق لقوته الجسدية ولسهولة هذه المهنة آنذاك، وكون من خلالها تشكيلاً عصابياً لضرب الفردة والحماية على الأغنياء، وانتهى الأمر به إلى السجن 3 سنوات، وفى السجن زاره أبوه وحرضه على الثأر وقتل عبد الرؤوف المسجون معه فى نفس سجن بتهمة قتل عم أدهم، وفعلها أدهم فى السجن واستمر بضع سنوات أخرى ليتم الإفراج عنه عام 1919 وقت ثورة الشعب المصرى بقيادة سعد زغلول.

وجد أدهم فى مناخ الفوضى الذى يسود، كما تعلمون أثناء الثورات، فرصة لاستعادة نشاطه الإجرامى بشكل أكبر يتناسب مع المرحلة وخبراته، وضرب عدة ضربات جعلته من أشهر قطاع الطرق، وذاع صيته، إلا أن هذا الصيت انقلب من صيت إجرامى إلى صيت وطنى، بعد أن قام الأدهم بالاستيلاء على قطار بضائع إنجليزى لسرقة ما فيه من مواد غذائية، وفى القطار كانت هناك أسلحة وذخائر تفيض عن حاجة الأدهم وعصابته، فاضطر إلى تركها على مشارف القرية، وتلقف الوجدان الشعبى، الذى كان يعيش حالة مد وطنى بسبب ثورة1919 الحدث وابتكر أسطورة الأدهم بصفته الذى سرق أسلحة الإنجليز ليدعم بها المقاومين للمحتل، وأعاد الوجدان الشعبى صياغة كل حوادث الأدهم ليحولها إلى أهداف وطنية ويجعله زعيماً وطنياً يعيد توزيع الثروة من الأغنياء المستبدين على الفقراء المساكين، وتلقف الشعراء الحالة الوجدانية الجديدة وأقرضوا فيها الأبيات، واتبعهم الغاوون والفنانون وأصبح الأدهم زعيماً وطنياً ذائع الصيت دون أى غنى حقيقى بالوطنية أو الكفاح !!

الصيت ليس فى الفلكلور فقط ولكنه أيضاً فى الواقع، فالصيت قد يجعلك كاتباً كبيراً وأنت لا تميز بين فك الخط وفك العمل، الصيت قد يجعلك سياسياً مشهوراً وأنت لا تعرف الفرق بين البرلمان والحبهان، المهم الهيئة والأدوات وبعض المصطلحات الاحترافية والحداقة، وخلى الباقى على الوجدان الجمعى، لتصبح بعد ذلك ذائع الصيت من أصحاب الأسعار العالية.

وطبقاً لنصائح شاعرنا الراحل نجيب سرور لكى تصبح مثقفاً اجلس على مقهى المثقفين حاملاً طناً من الكتب، وابدأ كلماتك بعبارة فى الواقع يتبعها صمت لحظات، وقل بعدها ما شئت دون الاهتمام بالمعنى، بعدها سيعمدك المستمعون وفوراً مثقفاً من الدرجة الأولى.

وبحكم الزمن تطورت الأدوات وأصبحت أكثر اختصاراً من الجلوس على المقاهى والقراءة والتحدث بأسلوب معين، فإذا أردت الآن أن تصبح شخصية عامة أو برلمانياً، الأمر يحتاج منك فقط الجلوس على حجر من حجور رجال الأعمال ومليونيرات العصر الجديد، وهيئة يصنعها خبراء الأزياء والإتيكيت، وبعض المصطلحات اللغوية سواء عربية أو إنجليزية، ويا حبذا لو طوق كل هذا حماية من أهل القوة، لتتحول بعدها دون أى أدوات مرهقة إلى شىء مبهر عظيم ذى سعر كبير، بل وربما وطنى مناضل مجاهد، ولا تقلق فستجد جمهوراً ومريدين.. فالناس فى بلادنا يحبون الصيت أكثر من الغنى .









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة