لا توجد وزارة فى مصر تم تدميرها بالتدريج والخبث على مدى عقود مثل وزارة الثقافة (وتشترك معها وزارة التربية والتعليم فى تلك المأساة)، ولا يمكن فهم ما يفعله الوزير الجديد الدكتور علاء عبد العزيز إلا فى سياق سلسلة التدمير المستمرة لهذه الوزارة على دورها التنويرى!
لكن قبل تحليل ما يحدث الآن من انتفاضة المثقفين والمبدعين ضد الوزير ومن (عصيان مدنى) داخل الوزارة، تعالوا نناقش بعض البدهيات الخاصة بالثقافة والتى يتم تجاهلها بعمد:
• أظن أن من أهم واجبات الوزارة هو نشر الوعى المستنير فى ربوع مصر كلها، وليس القاهرة وحسب، وهو ما أخفقت فيه الوزارة على مدى سنوات طويلة، وفاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق ظل فى منصبه من أكتوبر 1987 حتى اندلاع الثورة فى يناير 2011، أى أكثر من 23 عامًا، وهى مدة طويلة جدًا تكفى لجعل المصريين يتمتعون بعقل منفتح ووجدان رهيف إذا كانت الوزارة تقوم بدورها الصحيح. ولكن ما حدث أن حجم التخلف الفكرى انتشر وازداد بصورة مخيفة فى تلك الفترة، فرأينا جحافل الشباب تدخل فى سراديب التشدد الدينى أفواجًا، وخاصموا التسامح وقبول الأفكار الأخرى، فحرموا هذا ومنعوا ذاك، واستباحوا دماء الكتاب والمفكرين، وانتشرت الآراء الكارهة للناس والحياة، وبات الشعب المصرى كله مشغولاً بفتاوى مخبولة مثل إرضاع الكبير والصغير، وملابس النساء وأشكالها، ولحى الرجال وأطوالها، بدلاً من التطلع إلى كيفية اللحاق بالحضارات التى سبقتنا فنقرأ ونبحث ونتعلم ونخترع، حتى لا نظل عالة على الحضارة الحديثة نستمتع بمنجزاتها دون أن نشارك فى صنعها. وهكذا بعد ربع قرن من تربع فاروق حسنى على عرش الوزارة انحط سلوكنا نحن المصريين، وتفشت قيم سلبية عديدة من رشوة وفساد وإهمال وتجهيل، وتراجعت إلى حد مرعب فضيلة إتقان العمل .
• أعلم جيدًا أن المسئولية فى هذا التخلف الذى نعانى منه الآن لا يقع عبئه على وزارة الثقافة وحدها، بل على كاهل الحكومة كلها، ومع ذلك لم يحاول فاروق حسنى أن يسعى إلى تفعيل دور وزارته كى تقوم بواجبها . وإذا كان قد حاول ولم يلق استجابة من نظام مبارك البائس كان الأوجب عليه أن يستقيل لو أنه مشغول بحق بقضايا الثقافة وهمومها، لكنه اكتفى بإقامة مهرجانات صاخبة فى أضواء العاصمة الخلابة ، تاركاً المحافظات والأقاليم تعانى من انتشار أفكار التشدد والبغض، علاوة على الإهمال الجسيم فى مرافق الوزارة من قصور ثقافة وملحقاتها. (لعلك تذكر حريق مسرح بنى سويف فى سبتمبر 2005 الذى أودى بحياة نحو 50 فناناً مسرحيًا موهوبًا وجادًا).
• هناك فهم مغلوط وشائع يضع المثقفين كلهم فى سلة واحدة دومًا وهذا غير صحيح بالمرة، فالمثقف له موقف سياسى محدد من النظام الحاكم، أى نظام حاكم، وعليه رأينا كثيرا من مثقفى مصر ساندوا النظام السابق وامتدحوا مبارك حتى كادوا يألهونه، وهؤلاء نالوا العطايا وحصدوا الجوائز السخية من وزارة ثقافة مبارك، على الرغم من أن كثيرا منهم محدود الموهبة فقير الإبداع، لكن هناك بالمقابل مثقفين شرفاء رفضوا الانصياع لمبارك ووزيره، وفضحوا الجرائم التى ترتكب فى حق الثقافة والإبداع المصريين، نذكر منهم الناقد الكبير المرحوم فاروق عبد القادر، ونذكر بكل إجلال الروائى المدهش صنع الله إبراهيم رعى الله أيامه ولياليه، وكذلك نذكر موقف الروائى الكبير جمال الغيطانى عندما كان رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب وكيف واجهت الجريدة وفضحت فساد وزارة الثقافة ( لا تنس أن العديد من معاونى الوزير حوكم وسُجن)، كما أذكر أننى نشرت عدة تحقيقات صحفية فى منتصف التسعينيات فى جريدة العربى عن الفساد المستشرى فى وزارة الثقافة، ومن ضمنها تحقيق كان عنوانه (محاسيب فاروق حسنى يستولون على منح التفرغ).
• أما بعد الثورة فقد كانت وزارة الثقافة هى (الحيطة المايلة) فقد مر عليها الدكتور جابرعصفور لمدة 8 أيام فقط، وقدم استقالته قبل إجبار مبارك على الرحيل، ثم أتى أحمد شفيق وعين المهندس محمد الصاوى وزيرًا للثقافة، ثم جاء الدكتور عماد أبو غازى فى وزارة عصام شرف، لكنه استقال احتجاجًا على بطش المجلس العسكرى بالمتظاهرين، ثم الدكتور شاكر عبد الحميد، وبعده الدكتور محمد صابر عرب، وأخيرا الدكتور علاء عبد العزيز. أى 6 وزراء فى نحو عامين، الأمر الذى يدلل على أن حكامنا السابقين والحاليين غير منشغلين بالثقافة وأمورها، ولكن جميع من تولى الوزارة كانوا ينتسبون إلى التيار المستنير فى الثقافة المصرية بشكل أو بآخر، وكان الناس يعرفون تاريخهم وإسهاماتهم قبل وصولهم إلى المنصب المرموق، إلا الوزير الحالى، فلم يسمع به أحد، ولم ير (إبداعه) أحد، وهكذا قفز الرجل على المنصب بنية مبيتة، ولعله وزير الثقافة الملتحى الوحيد فى تاريخ مصر منذ العظيم ثروت عكاشة. ولأنه وزير غير غير مبدع، فقد يقول الذى يدافع عنه ليل نهار أنه يمتلك مهارات إدارية جبارة، فدعوه ينظف الوزارة من الفساد المستشرى، ونقول نحن: أجل.. الفساد فى الوزارة صار كالسرطان، ومع ذلك ففنون الإدارة لا تقول أبدًا أن تطيح بكل قيادات الوزارة دفعة واحدة وتستعدى جموع المثقفين والمبدعين، المؤيدين والمعارضين، لأن هؤلاء القادة ليسوا بلهاء، فأنصارهم كثيرون فى الوزارة ولن يتركوك تنكل بهم، وعليه أثبت الدكتور علاء عبد العزيز أنه لا يمتلك مهارات إدارة معاركه مع مرؤوسيه، لكن يبدو أن نظام الدكتور مرسى وإخوانه المتأسلمين قرروا شل يد وزارة الثقافة وتدمير ما بقى منها من انحياز نحو الثقافة الجادة والتنويرية، لفرض المشروع الإخوانى فى التمكين من مؤسسات الدولة. إذ كيف تفسر ما كتبه أحد المدافعين عن الوزير الإخوانى ذاكرا أهم مبدعى مصر ومثقفيها فى القرن العشرين بادئاً القائمة بسيد قطب ومهملاً طه حسين وسلامة موسى ونجيب محفوظ وأم كلثوم وعبد الوهاب ومحمود مختار، فلم يأت على ذكرهم قط؟
• نعم.. وضحت النوايا الخبيثة لنظام مرسى وإخوانه، ولأنه يكافح من أجل السيطرة على أربعة مؤسسات : الجيش والقضاء والإعلام والثقافة، ولأنه يجد معارضة شرسة من بعضها، فقد وجه جهوده للسطو على وزارة الثقافة، وهى (الحيطة المايلة) كما قلت قبل قليل، والسؤال: هل ينجح الوزير علاء عبد العزيز فى السطو على الوزارة؟ الإجابة.. قد ينجح فى تعيين رجاله فى المناصب الكبرى بالوزارة، لكنه حتمًا سيفشل فى السطو على عقل مصر ووجدانها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة