كان شابا يافعا حين التحق بمصنع شاب أيضاً هو الحديد والصلب بحلوان، خرج من حرب أكتوبر عام 1973 بعد أن شارك فى النصر وتحرير الأرض، هو مواطن بسيط من قريتى كوم الآطرون، طوخ، قليوبية اسمه ممدوح عبدالشافى رحمه الله، رأيته فى صغرى عنوانا لقلعة صناعية كبرى أنشأها جمال عبدالناصر، كان «ممدوح» ضمن آخرين من قريتنا التحقوا بهذه القلعة، فى مقدمتهم المهندس محمد عفيفى الذى أوفده المصنع فى بعثة علمية إلى موسكو، فأصبح خبيرا كبيرا فى المصنع، تسعى دولا عربية نحوه، وتمسكت به العراق وقت محاولة نهضتها الصناعية أيام حكم صدام حسين.
إلى قلعة الحديد والصلب، توافد خريجو المدارس الصناعية من أبناء بلدتى، وعبرها رأيت بيوتا مفتوحة بنوافذ يطلون منها على أمل كبير لغد يحلمون به، فلم يشغل الآباء وقتها البحث عن فرصة للعمل لأبنائهم بعد تخرجهم، فالمصانع يتم تشييدها، والالتحاق بالعمل متاح للجميع.
وفى حوار لى مع المهندس عزيز صدقى، الرجل الذى أسند إليه جمال عبدالناصر أول وزارة للصناعة فى تاريخ مصر وعمره 36 عاما، فصار يلقب بـ«أبوالصناعة المصرية»، لا أنسى قوله لى، إنه بعد افتتاح عبدالناصر لإحدى مراحل هذا المصنع، استدعاه عبدالناصر فى اليوم التالى، وفى اللقاء سأله عن عدد العمالة الجديدة، والمساكن التى سيتم إنشاؤها لهم، وفى نهاية اللقاء، وحسب ما ذكره لى عزيز صدقى ودموعه فى عينيه، قال له الزعيم الخالد «عايزين يا عزيز على قد ما نقدر نبنى مصانع نبنى، دى الحاجة اللى هنسيبها للشعب، ما حدش عارف اللى هييجى بعدنا هيعمل إيه».
هذه الوصية من عبدالناصر لصدقى، كانت نبوءة لما ستحمله المقادير لمصر فيما بعد، فمصانع الرزق والإنتاج والتحدى صارت خرابا، وتم بيعها باسم الخصخصة فى أكبر عملية نهب شهدتها مصر، وبعد أن كانت هناك طبقة عاملة تزود الطبقة الوسطى التى تولدت بفضل نهضة الخمسينيات والستينيات، أصبحنا فى عصر الطبقتين، أقلية تكتنز الثروة، وأكثرية ساحقة تأكل الفتات من ورائها، وبينهما ضاع الكثير والكثير، فلم تعد مصر رائدة فى مجالها الإقليمى، ولم تعد هى البلد الذى يشار إليه كقلعة صناعية، ولا أنسى وأنا فى زيارة إلى إيران منذ شهور ضمن وفد صحفى، وبينما يحدثنا المسئولون الإيرانيون بفخر عن مصنع الحديد والصلب عندهم بوصفه الأكبر فى الشرق الأوسط حاليا، استدعينا جميعا وبحسرة وحزن قصة الحديد والصلب فى حلوان، وكيف تم تشييده بالإرادة ورغم التحديات، وكيف آلت أوضاعه إلى خراب كبير يتنافى مع التضحيات التى سالت على أرضنا حتى نملك إرادتنا المستقلة.
استدعيت فى طهران، صورة أقاربى ممدوح عبدالشافى والمهندس محمد عفيفى فايد، وأنا أستمع إليهما عن العبث وتخريب المصنع، تحدثا عن زمنين، زمن كانوا يلبسون فيه زى العمل بعشق للوقوف خلف ماكينة الإنتاج، وزمن دفعهم نظام فاسد دفعا للخروج إلى المعاش المبكر.
تحدث الرئيس مرسى عن جمال عبدالناصر وعن الحديد والصلب، فهل يستكمل ما بدأه الزعيم الخالد حقا؟!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة