لم أعرف وجهه من كثرة ما عليه من «سائل الخميرة» التى جعلت سمرة بشرته المصرية بيضاء بلون الدقيق، نظرت فى عينه فوجدتها مشتعلة باحمرار واضح من آثار ما تعرض إليه من قنابل مسيلة للدموع، أما شعره الذى كان حينها «طويلا» فقد تناثر فوق وجهه واختلط فيه العرق بالغبار بالدخان فما أن تراه حتى تعتقد أنه خارج لتوه من معركة طاحنة، كان ينهر الواقفين وقد كست حنجرته حشرجة الألم قائلاً: مستنيين إيه.. أدخلوا أخواتكو بيموتوا جوه، وبعدها دخل فى شبه انهيار حقيقى.
هذا الشاب هو على قنديل، فنان الكوميديا الموهوب، الذى ينظر إلى الحياة بألم، وينقل ما يراه باسما، أما مكان مشاهدتى له فكان فى أحد الأيام الطاحنة لاشتباكات محمد محمود 2011، كنا للتو داخلين الشارع لننال نصيبنا من قنابل وخرطوش وشتائم «إسلامية» منظمة، بينما هو كان قد أدى فترة تجنيده «الاختيارى» فى شارع البطولات، خرجنا من محمد محمود ووقفنا على أبواب الشارع لنلتقط أنفاسنا، وما هى إلا لحظات حتى رأينا مجموعة من شباب الميدان تحمل جسداً متهالكاً عرفنا بعد ذلك أنه «على» الذى اصطاده دخان القنابل فأصيب بالاختناق، وقفنا بجوار جسده المنتفض حتى بدأ فى استعادة وعيه، ومشينا سويا حتى أول شارع طلعت حرب مبتعدين عن القنابل والدخان، ثم قال إنه سيذهب ليستريح قليلاً على أى مقهى، ليشرب شيئاً ساخناً «ينظف صدره».
قبل أحداث محمد محمود وفى أيام الثورة الأولى لم أر «على قنديل» بعد موقعة الجمل، لكن بعد 11 فبراير عرفت أن «على قنديل» أصيب فى «موقعة الجمل» بشرخ فى الجمجمة ظل بسببه طريح الفراش أياما طوالا، وحينما قابلته وحكى لى ما حدث كدت أن أبكى تأثراً لولا خوفى من «إفيه» طائش اعتاد «على» أن يلقيه فى مثل هذه الظروف.
كنا نحن فى الميدان نحصد انتصارات «موقعة الجمل» بينما «على» فى البيت يحصد الآلام المبرحة، أياما طوالا قضاها نائماً، وأياما أخرى مرت عليه كساعة، ليفيق بعدها وهو غائب عن الوعى تماماً، لا يذكر اسم والدته، ولا يعرف شكل إخوته، ولا يرد على مكالمات أصحابه المتتالية، قضى «على» أسابيع طويلة وهو يتمنى الموت هربا من حالة التوهان التى أصابته بعد الإصابة، يحكى ويضحك «مكنتش عارف أسماء الأشياء» يحكى ويضحك «كنت بقول لأمى يا اسمك إيه» يحكى ويضحك «كل الحاجات المؤنثة كان اسمها عندى بتاعة» يحكى ويضحك «كل الحاجات المذكرة كان اسمها عندى بتاع».
بعد أن مرت على «على» أيام التوهان بأمان وسلام، وبعد أن ذهبت «حلاوة الثورة» وانتصاراتها، وبعد أن بدأ فى استيعاب ما يحدث أمامه من تطورات، فوجئ بأن أهداف الثورة وقضاياها الأساسية فى مهب الريح فقد مضت أيام الصفاء الثورى ودخلنا فى معركة التعديلات الدستورية الكارثية، لكن على بما تعود عليه من خوض للمعارك لم يجلس أمام شاشات التليفزيون ليشارك فى «المندبة» فحمل موهبته على كتفيه، وبدأ «مفرداً» فى عمل حملة توعية سياسية واجتماعية نبيلة، خصص على من وقته كل يوم أربع ساعات يقضى معظمها فى مترو الأنفاق متنقلاً بين العربات وأرصفة المحطات عارضا فقرات من هذا الفن الذى يحبه «استاند أب كوميدى» أو ما يمكن أن تطلق عليه «كومديا ع الواقف» من خلال هذا الفن المبتكر، كان على يقوم بتوعية الناس بالبسمة، ومن خلال هذه الروح الجسور كان على يثور ويحب ويضحك ويبكى وحينما تولى الإخوان الحكم وضعوا الكلابشات الحديدية فى يد على، وكل ذنبه أنه شارك فى برنامج باسم يوسف منتقداً بعض الأساليب المستفزة لدعاة التأسلم واحتكار المعرفة بالله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ميمو
وختامها مسك " لدعاة التأسلم واحتكار المعرفة بالله "
عدد الردود 0
بواسطة:
ميمو
نهر الصحافة المصرية