خربناها بأيدينا.. وبعد أن دخلت مصر نادى الكبار فى السياحة الدولية وحققت المركز رقم 18 وجذبت 15 مليون سائح ودخل ما يقترب من 12.5 مليار دولار فى عام 2010، تراجعت وتقهقرت وانهارت الحجوزات وأصبحت بأسعار متدنية.. والسبب الرئيسى هو الانفلات الأمنى وليس الثورة التى لم نحسن استثمارها لتضخ الخير فى شرايين الاقتصاد المصرى، فالثورة وضعت المصريين فى صدارة الشعوب التى انتفضت بحثا عن «عيش وحرية وعدالة اجتماعية» وجعلت ميدان التحرير مزاراً للباحثين عن الأمل والحياة، وشدت زائرين من مختلف بقاع الأرض ليروا على الطبيعة ملامح التجربة المصرية، ولكن الانفلات الأمنى سحب السجادة من تحت أقدام الثورة، وجعل الراغبين فى زيارة مصر يفكرون ألف مرة قبل المجىء.
فاتورة الخسائر موجعة، إذا علمنا أن السياحة توفر 3,5 مليون فرصة عمل بصورة مباشرة، و10 ملايين فرصة بشكل غير مباشر وتقدم 50 منتجاً على الأقل فى المطاعم والسلع الغذائية والفنادق والمرشدين والنقل والمزارات وغيرها، وكل ذلك أوشك على الانهيار والضياع، وخطفت الدول المتحفزة سياحيا الكعكة من أيدينا، فى إسطنبول ونابولى وكازابلانكا وإسرائيل ولبنان وقبرص واليونان وغيرها، ولم ينفع الندم حين قررت واحدة من كبريات شركات السياحة فى العالم «نرويجين كروز لاين» إسقاط مصر من جدول رحلاتها الترفيهية هذا العام والعام القادم، وكل ذلك بسبب الانفلات الأمنى وتدهور الأوضاع السياسية والاضطرابات التى لا تهدأ أبدا، المحصلة النهائية أننا ذبحنا بأيدينا الدجاجة التى كانت تبيض ذهبا، ودمرنا بأفعالنا موارد السياحة الهائلة التى كانت تنعش البلاد، وتوفر فرص عمل للملايين، وتضخ فى شرايين الدولة موارد النقد الأحنبى، وأصبحت المدن السياحية الشهيرة فى مصر مثل العروس التى هجرها عريسها ليلة الفرح تبكى على الأطلال وفراق الأحباب، وباتت شواطئنا الدافئة منكسرة حزينة على السائحين الذين أداروا لها ظهورهم، وتجمدت ثروة قومية استثمرت مصر فيها مليارات الجنيهات، وكانت تحلم بأن تكون من الدول العظيمة فى مجال السياحة الدولية، وإذا لم ننتبه وننقذ ما يمكن إنقاذه بأقصى سرعة، فالقادم أسوأ ولن نسترد أبداً المعدلات الكبيرة التى حققناها، لا فرق بين الأقصر وأسوان وبين شرم الشيخ والجونة، وكذلك سائر المناطق السياحية، والله يرحم أيام العز والنعمة حين كانت تأتى الطائرات محملة بآلاف السائحين كل ساعة، يستمتعون بالشمس الساخنة والرمال الذهبية والآثار التاريخية والطعام الشهى والأجواء الرائعة والشعب الطيب، وكل ذلك ذهب مع الريح، ومن يصدق أن مدينة مثل شرم الشيخ التى كانت تعج بالسائحين فى عز الشتاء، أصبحت خاوية على عروشها، وأظلمت فنادقها وسرحت عمالها، ويقف معبد الكرنك شاهداً على الجريمة التى ارتكبناها فى حق الأقصر، التى كانت تستعد لتدشينها كأكبر متحف آثار مفتوح فى العالم.
الدول التى حولنا تتصارع لجذب السائحين وتوفير سبل الراحة والمتعة لهم، وزاد الطين بلّة-بجانب الانفلات- أن فى بلدنا من يُفتى بتحريم السياحة وتحجيب السائحات الأجنبيات، وضرورة الفصل بين الرجال والنساء فى الشواطئ والاحتشام والالتزام بالمايوه الشرعى، ومنع الرقص والغناء والصخب على الشواطئ.. وأقول له: بالله عليك ما الذى يجبر سائحاً أجنبياً للمجىء إلى مصر، ليضع نفسه تحت الإقامة الإجبارية والقيود التعسفية والرزالات السخيفة، بينما تقدم له دول أخرى مجاورة برامج سياحية وترفيهية جاذبة، وفى صدارتها تركيا الإسلامية التى تطلق السياحة دون أى قيود، وأيضا تونس ولبنان والإمارات وقبرص واليونان، ولكل هذه الدول مزايا نسبية مثل التى نمتلكها بل وأكثر.
لن يعود السائحون إلينا إلا إذا عدنا نحن أولا إلى مصر، ولن تعود مصر إلينا إلا إذا منحناها الأمن والهدوء والاستقرار، لتعود الحياة من جديد إلى شواطئها وفنادقها ومرافقها السياحية، لن تعود إلا إذا سكتت مدافع الحروب الكلامية والأهلية، تعود إلينا بالعمل والإنتاج والاستثمارات والمشروعات، التى تزرع الأرض خيراً ونماءً وتوفر فرص عمل للعاطلين، تفتح البيوت وتطعم الجائعين وتجد سكنا وحياة كريمة للمشردين.. غير ذلك انتظروا الأسوأ حين يعم الفقر ويقرص الجوع وينتشر اليأس، ولا تلوموا الطوفان إذا جاء، بل لوموا أنفسكم، وتذكروا «من لا يجد عملا أوجد له الشيطان عملا»، والشياطين تعبث بطول البلاد وعرضها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة